مطاع صفدي

عندما تسيطر سلطة الحرب وحدها، لن يبقى ثمة منفذٌ يؤدي إلى أي سلام موقت، أو دائم. بل يغدو الاهتمام منصبّاً فقط على استثمار العنف إلى أقصى حدوده، واستخراج أفظع نتائجه المدمرة ضد الآخر، هذا الذي يصبح العدوَّ المطلق الذي يجب الانتهاء منه بأي شكل ودون أية مراجعة للقيم أو للمفاهيم أو الاعتبارات العامة. هذه الأطراف المتنازعة في الساحات الدموية تعميها عملياً فوراتُ الدم المتصاعدة من جدث 'العدو' وحده، لذلك عندما نسمع عن مشروع هدنة ما تفرض على الحرب المجنونة في سورية، لا تكاد الأُذن تدرك معنى واقعياً لها، ليس هذا كرهاً بالهدوء، بل احتراماً له، إذ لا يمكن لسلام الهدوء أن يخيم على النفوس المتخاصمة حتى الحدود القصوى، ما تفهمه عقول العنف عادة، هو أن سلامها مرتبط بإنهاء الآخر؛ فلا سبيل إلى استتباب طمأنينة معينة بين عدوين إن لم يسيطر أحدهما على الآخر، أو يمحوه من الوجود كلياً.
هذه حالة بديهية عرفتها مسلسلات الحروب الكبيرة منها، والأهلية خاصة. ومع ذلك فإن الرأي العام العربي المتابع للمجازر لا يزال متأملاً بنهاية ما لهذه المقتلات، وقد يلوم هذا الرأي العام المسؤولين القادرين على وقف سيول الدماء لعجزهم المتمادي عن فرض الحد الأخير لهذه المأساة بدلاً من طرح مشاريع الهِدَن الموقتة التي لا معنى لها في قاموس الوقائع الفعلية. هذا إذا التزم الفريقان حقاً بوقف النار بينهما بضعة أيام، وهو أمرٌ لا يضمنه أحد، ولكن على فرض تحقيقه، فالعودة إلى الجحيم قد تغدو أفظع وأعنف في وقائعها القادمة من كل ما سبقها. وتدل على هذه الظاهرة دروسُ الحرب الأهلية اللبنانية التي ما كانت لتنقطع نيرانها فترة من الوقت حتى تستعيد عنفاً أكبر من كل ما حصدته نيران المقتلات العبثية من قبل.
التفكير حول التهادن لا يعني أبداً أكثر من إضاعة الوقت مجدداً، كما لو كانت هناك نوايا في تأجيل الحلول، والوصول إلى السلام الحقيقي؛ فالتهادن لا يُعِدُ إلا بسلمٍ مستعار لا ينتج سوى ما هو ضده تماماً في عين الوقت الذي تسيطر فيه مظاهر السلم المستعار الخادعة؛ كأن سعي الكبار، من هذه القوى العربية والدولية وراء سراب الهدنة هذا، يثبت الفكرة القائلة أن أكثرية هؤلاء يعتبرون أن الحرب لم تحقق نتائجها المطلوبة حتى الآن. فما يزال الوقت مبكراً على تحقق قرارٍ حاسم وشامل لقطع مسلسل المذابح، ولعل النتيجة المضمرة المنتظرة لم تعد تخص مسألة انتصار النظام أو الثورة فحسب، بل هي فجيعة التدمير الكلي لحضارة سورية.
ههنا يتجلى فكر 'المؤامرة' التي لم تعد تخفي لها وجهاً كريهاً حتى تبرز وجوهاً أخرى مفعمة بالجور والطغيان، ذلك أن أعنف أشكال العنف المصاحبة لهذه المقتلة الشاملة كان هو تجسيد إرادة التدمير التي تتجاوز الإنسان لتنال من حضارته وثقافته وتاريخه ومستقبله، لعلّه هو القصد الأخفى المتفق عليه بين الأضداد الظاهرين والمتوارين. كأنما هناك وحدة رأيٍ أو مشروع تجمع هؤلاء حول الأمل بالخلاص من دولة ومجتمع معين دفعة واحدة.
لا يتضمن هذا حكماً واحداً يطلق على القوى المتحركة للعدوين معاً، إلا عندما يعجز العقل حقاً عن اكتشاف امكانية التدخل في صراع الغرائز الفائرة ضد بعضها، فالثورة هي أبعد ما تكون عن مغامرات العنف الطائش، لا يندفع الشباب وراء شعاراتها إلا إيماناً بقدرة أكبر لها على إقامة سلطة العدالة، لن يكون العنف غاية في ذاته إلا بالنسبة للثائر الخائب في اكتشاف مشروع لمستقبله قابل أن يكون من صنع يديه، بينما يندفع الشباب الواعي في نوع النضال المستنير، وهم واثقون بأن أفعالهم ستؤدي إلى تغيير الواقع الظالم الذي يخيم على جيلهم بكل أشكال الاضطهاد المادي والمعنوي.
إنهم يحولون جولات النقد اللفظي إلى مواقف عملية، قد لا تصيب غاياتها كما يأملون بين معركة رابحة قليلاً أو أخرى خاسرة كلياً. والمفجع في هذا حقاً هو مدى التلاعب الذي قد تخضع له حركاتهم ومشاريعهم، فإن اكتشاف الصعاب قبل مثولها النهائي عبر منعطفات الممارسة الشاقة، قد يميز الثورة الواعية عن نوع الثورة الساذجة أو المخدوعة أو المغدورة بأحلامها وقراراتها. وفي مقدمة المشكلات تبرز الانتهازيات والوصوليات التي تحف بالنضالات البريئة لتخرجها عن سواء سبيلها.
ولكن، لنسأل الآن: مَنْ بين الطرفين محتاج إلى الهدنة الموقتة أكثر من الآخر؟ فمن المتفق عليه أن النظام السوري هو البادئ بالعنف، والمطوّر لأدواته كلها من مستوى البنادق إلى المدافع والطائرات والقنابل الضخمة والعنقودية وربما الجرثومية كذلك، وهو الذي يُتحف مسامع العالم كل صباح بأرقام المقتولين والأسرى والمهجرين والمعذبين.. إلخ. كان النظام محتكراً لأدوات العنف قبل الثورة، وضاعف من إمكانياتها إلى أقصى حد بعدها خلال ممارسة المجازر.
لقد ورّط الثورة السلمية بوعثاء الدماء، حتى كاد الخيار الأمني العسكري أن يسيطر على سلوك الطرفين، لكن دون أن تفقد الثورة سلميتها الأولى، تحاول أن تظل في معظم قواها شعبيةً واجتماعيةً عامة، في حين أن النظام قد أَغرق نفسه كلياً في حمأة البركان الذي أعده للشعب. كان يعتقد أنه سيظل سيداً فوق فوهة البركان، لكنه راح يغرق تدريجياً في جحيمه. فهل يستطيع حقاً أن ينتشل بقاياه، أو ما تبقّى من سمعته أو شرعيته. إن كان لها هذه الآثار بعد..
ما نفع الهدنة الموقتة إن كان النظام لا يستطيع مسبقاً أن يلتزم بها، ومع ذلك لا يبدو أن أحداً في المعارضة يرفض العودة إلى الهدوء شرط التقيد بأسباب الأمن الحقيقي، وليس المستعار أو الظاهري فحسب. فلقد كانت الثورة متشبثة دائماً بنوع الكفاح السلمي في شوارع المدن السورية، بينما شعر النظام أنه لا يستطيع التصدي للشارع الثائر بوسائل الأمن العادية. وهكذا فرض على ذاته وعلى الثورة معاً الاستسلام لتصاعد أعمال العنف وأشكاله المختلفة، فما كان أحوج السلطة إلى بحار الدم هذه، لو لم يسيطر خوف مجنون من النهايات الكارثية على أصحاب القرار. فكان الانتقال السريع إلى خطوط النار والتورط في المذابح العامة ضد المدنيين العزَّل، كان النظام، وما زال يعتقد، بأن معاقبة الجماهير قد تحفظ له بعض الهيبة الضائعة، لكنه فَقَدَ بذلك آخر علامات السلام والإنسانية والشرعية التي يحتاجها أي نظام حاكم، كيما يبرر سلطانه ويجعل الناس يحتملون الاضطهاد إلى درجة معينة.
هذه الحرب الغبية المتوحشة التي يشنها النظام على شعبه، لم يكن مضطراً لها لو لم تأخذه حمى الهلع من نهاية أصبحت حتمية بكل الطرق، سواء منها العنفية أم السلمية.
أما الجماهير الثائرة، فهي مصرة على استعادة سلامها. قد تتقبل فكرة الهدنة، شرط أن تكون مدخلاً لعودة سلام دائم إلى ربوع القطر. حينئذ يمكن استئناف الكفاح السياسي بوسائله المشروعة التي لا تزال تتمسّك بها مختلف أطياف المعارضة والثورة معاً، لكن لا أحد يمكنه أن يضمن هذا الخيار الذي أصبح مستعصياً، بحسب تراكمات التجربة المرة. فالنظام أمسى فاقداً لأبسط دعائم السياسة المدنية، بعد أن احتكرت سلطة الاستبداد لغة العنف وحدها كطريقة لمخاطبة خصومها.
أصبح واضحاً للملأ، أن النظام لن يغامر بالتخلي عن هذا الخيار، ومع هذا تستطيع الثورة وحدها أن تفرض يوماً ما العودة الحقيقية إلى الحياة المدنية.
إنها تؤلف خط الدفاع الجماهيري الأخير عن حق الناس في الحياة العادلة، مثل هذا الهدف يحتاج إلى سلام شامل وأصيل، ولن تتحقق شروطه العادية إلا عندما ينهار سلطان الاستبداد كلياً، هذا لم يعد هدفاً مستحيلاً..