محمد خليفة

في العالم العربي اليوم دعوات كثيرة تقوم معظمها على أساس العصبية الدينية وتبعث الفوارق الملّيّة والمذهبية القومية التي تستهوي قلوب الشعوب، وهي دعوات غير صادقة، إذ إن من المحال أن تكون أي أمة فوق الجميع بسبب معتقداتها، وهي مع هذا تسيء إلى العالم وأصحاب الديانات الأخرى وتقلق الإنسانية، فمن الحقائق المسلّمة أن قضية الإيمان بالله قضية محورية تقوم عليها حياة الإنسان على هذه الأرض، بكل مقوماتها واتجاهاتها وواقعيتها، وسنة الله في إرسال الرسل منذ نوح إلى محمد - عليهم جميعاً السلام - أنهم جاؤوا برسالة إلهية واحدة ldquo;يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيرهrdquo; (الأعراف)، لهداية الناس في شتى الأوان والأزمان، لا يفرقهم نسب ولا جنس . هؤلاء الرسل والأنبياء هم حجة الله على الناس عبر التاريخ البشري لرسم منهج الهداية الربانية، وترسيخ قضية التوحيد، وتعميق مفهوم الدين، بما يشع منه من أمن النفس وأمن البشرية جميعاً .

فالدين والتدين عامة إنما يقومان على فكرة النبوة والأنبياء، وهي النزعة الإنسانية التي ترمي إلى الارتفاع بالقيم والأخوة الإنسانية، وتُعِدّ الناس للتطورات المتعاقبة على مدارج الزمن، فالدين غريزة في الفكرة البشرية، ويمثل المقصد الأساسي للطبيعة والماهية الجوهرية للإنسان . إلا أن المعتقدات الدينية المنحرفة أفسدت على بعض البشر، حين تستند إلى ldquo;الأناrdquo;، هذا الصفاء الإيماني، فصُوِّر لهم أنهم نواب عن الإله، وأعطوا أنفسهم الحق في تقرير صحة أو بطلان المقررات الدينية للأديان الأخرى، وبعضهم يريد إلغاء العقل ونفي دوره في الإيمان والهدى، ويمارس التعسف والتعثر، فيخبط فيها المتطرفون بالفعل ويمارسون الاضطهاد والتغرب والتشرد ضد إخوانهم من أصحاب الديانات الأخرى خاصة في عالمنا العربي، وهذا ظلم للحق ولعدل الله، وهم بذلك يفرقون بين الله ورسله، مع أن قدر هذه المنطقة أن تكون مهد الأديان، ومهبط الرسل، واختيارها لهذا الأمر لم يكن عبثاً ولا جزافاً، بل هي حكمة من حكيم خبير .

فأهل الشرق العربي يصفهم المسعودي في كتابه ldquo;مروج الذهبrdquo; عن بلاد الرافدين، بالأمة الوسطى في العالم، وأن أبناءها يجمعون بين الذكاء والحكمة والقوة والحلم، وبلاد الرافدين هي لب الشرق العربي ومهد رسالاته منذ النبي إبراهيم عليه السلام حتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي مهد السيد المسيح الذي جاء بإنجيله، وبشارته على أرض سوريا وتبعه الكثير من أهل الشرق وآمنوا برسالته .

ومن الشرق انطلقت المسيحية إلى كل العالم، وعندما جاء الإسلام تعايش المسلمون مع أتباع الأنبياء السابقين - خاصة اليهود والنصارى - بل حافظوا على أتباع هاتين الديانتين، تحت مسمى ldquo;أهل الذمةrdquo;، ويعني هذا المفهوم أن هؤلاء في ذمة المسلمين الذين يتعهدون بحمايتهم، وصيانة حقوقهم في البلاد الإسلامية مقابل أن يدفع هؤلاء الجزية، وهي مبلغ من المال يعطى لبيت المال مرة في السنة، وقد رضي اليهود والمسيحيون هذا .

وإذا كان الوجود اليهودي قليلاً - لاعتناق أغلبهم المسيحية - فإن أغلب المسيحيين كانوا يدفعون الجزية، وقد استمروا بدفع الجزية قروناً عديدة راضين متعايشين . ومصطلح ldquo;أهل الذمةrdquo; الذي نحته الفقهاء المسلمون، ارتبط في ذلك العصر، بانشغال المسلمين بالفتوحات والجهاد دفاعاً عن الوطن بأطيافه من اليهود والنصارى وسواهم من أتباع الديانات الأخرى وأتباع المعتقدات الأخرى يعيشون آمنين مطمئنين، وأن الجزية كانت تفرض فقط على القادرين، بينما يُعفى منها الشيوخ، والأطفال، والنساء، والعجزة، وغير القادرين، لذا فإنهم ظلوا متمسكين بولائهم لهويتهم الشرقية العربية، ورفضوا الانجرار وراء الصليبيين في إجرامهم بحق سكان الشرق من عرب ومسلمين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ولم يعترفوا بهؤلاء بوصفهم ممثلين عن المسيحية، أو مدافعين عن السيد المسيح، وعن كنيسة القيامة، أو صليب الصلبوت، ولذلك عندما زال الصليبيون واندحروا بشكل نهائي عام 1293 للميلاد، ظل المسيحيون العرب في قراهم ومدنهم لم يمسَّهم أحد بسوء .

وللحق، فإن الوالي المصري إبراهيم باشا كان أول من رفع التمييز ضد المسيحيين خلال الحكم المصري لسوريا بين عامي 1830 و 1840 فقد اعتبر رعاياه كلهم متساوين أمام القانون بما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات، فكان أول من أرسى مفهوم ldquo;المواطنةrdquo; في الشرق، وقد تعرض إبراهيم باشا، بسبب ذلك، لمناوشات بعض المتشددين المسلمين، ولاسيما في مدينة طرابلس التي اتخذها عاصمة لملكه، ما أدى إلى اندلاع الثورة ضده، والتي انتهت بجلاء المصريين عن سوريا، وعودتها إلى الحكم العثماني .

إن التاريخ، وإن لم يكن منصفاً - أحياناً- بدرجة كبيرة للمسيحيين في الشرق، لكنه بكل تأكيد، يعطي دليلاً على أن المسلمين كان بإمكانهم إجلاء المسيحيين من ديارهم بالشرق - كما فعل المسيحيون الإسبان مع مسلمي الأندلس- لكنهم كانوا يعملون دائماً في ضوء النصوص الشرعية المتعلقة بأهل الذمة، واليوم يتعرض المسيحيون في الشرق، من جديد، لهجمة من الأصولية الإسلامية تحت شعار ldquo;تطبيق الشريعة الإسلامية في ما يخص أهل الذمةrdquo; . ولا شك أن ذلك لن يؤدي إلى تطبيق هذه المفاهيم، بل سيقود إلى إفراغ الشرق من أي وجود للمسيحيين . فيجب الحذر من هذا الخطر الأصولي المتطرف الذي لن يقضي على المسيحيين العرب فقط، بل سوف يدمر المكتسبات الحضارية للأمة العربية والإسلامية، لأن التاريخ لا يعود إلى الوراء ولا يمكن إيقاف الزمن أو تغيير دورته .