سمير عطا الله

لم تكف جدتي يوما عن العودة إلى عالمها، كلما تأملت عالمنا، وكلما أذهلها غلاء سلعة ما، كانت تردد laquo;أيامنا كان كيس الطحين بنصف ليرةraquo;. وفي أيامها، كانت العائلة هي التي تشتري الطحين، وهي التي تعجنه، وتتركه إلى اليوم التالي، وهي التي تأخذه إلى الفرن حيث يُخبز. وكان المثل يصف الرجل النكد بأن laquo;وجهه لا يضحك للرغيف الساخنraquo;.

أتحدث اليوم عن الأشياء مثل جدتي مع أن الطحين لم يعد موجودا إلا في المطاحن والأفران. والمذهل في عالمنا لم يعد غلاء السلع. فسعر الذهب لم يعد يفاجئ أحدا. ولم يعد هناك أي مفاجأة في الأجور التي يتقاضاها ذوو الأقدام الساحرة. ولم يعد الموسيقي يعزف على البزق ويعيش العمر جائعا، بل صار يعزف بالكهرباء ويبيع آلاف الأسطوانات. وكان الحفناوي كمنجاتي أم كلثوم، وثاني السحر المنفرد بعد حنجرتها، وقضى العمر بكرافتة واحدة laquo;مزينةraquo;، كما قال محمد عبد الوهاب. صارت الثروات الكبرى تصنع من الأشياء الأثيرية التي لا تمتلكها كالعقار والأرض. فأنت شريك في قمر صناعي لا تراه. والممثل الذي كان يسمى laquo;مشخصاraquo; صار يسمى نجما، وهو أحيانا أغنى من جميع الأسماء التي مرت في ذاكرة العالم: ديفيد روكفلر. أوناسيس. غولبنكيان، أي laquo;مستر 5%raquo;.

الصناعة الكبرى لم تعد في الحديد والفولاذ. وليس في خلطات الفارابي السحرية، أو في محاولات أبو موسى جعفر في عالم الكيمياء، مع أنه انتهى إلى تأسيس علم الجبر، الذي غير القواعد الحسابية في العالم. لقد أصبحت في السفر والسياحة والسلوى. شركة laquo;والت ديزنيraquo; أكبر من مليون مزرعة قمح. والنبأ الذي اعتبر laquo;الأكثر قراءة في مواقع الصحف العربيةraquo; كان اعتزال ndash; ونفي اعتزال ndash; سيد المواويل، محمد عبده، وفي صحيفة عريقة مثل laquo;النهارraquo; كان الخبر الأكثر قراءة عن البدل الذي تقاضاه عاصي الحلاني عن ليلة طرب.

تصرف الناس أموالها الهائلة على laquo;الزائلraquo; وليس على المقتنيات أو التملك. أغنى شركات العالم في التاريخ هي شركات التكنولوجيا التي تبيعك الدنيا مثلما تبيعك الوهم. تحمل الـlaquo;آي بادraquo; فتشعر أنك تملكت العالم، ثم تضعه جانبا فتكتشف أنك لا تملك منه شيئا. ومثل الساحرات يحمل إليك أخبار النكد وأخبار السعد. الأولى من العالم العربي، والثانية من أي مكان آخر.

حاول أن تتخيل عدد العرب الحالمين بالهجرة هذا الصباح. حاول. تأمل الخريطة بلدا بلدا ثم اكتب أمامك رقما. لكي أسهل عليك الأمر، دعك من رقم محدد، ولنكتف بالنسبة. نحن نحو 350 مليونا، أي عدد أوروبا أو أميركا. كم هي نسبة الحالمين والراغبين والمستقتلين على السفر بعد ساعة؟ 10%؟... 20؟... 70؟... أعد الحساب. أعد الحساب.

ما الأمر يا جماعة؟ إذا أردنا تذكر أي فخر يجب أن نعود قرونا إلى الوراء. وإلا فيوم وعد بلفور، ويوم النكبة، ويوم النكسة، ويوم صبرا وشاتيلا، ويوم اليرموك وأقبية بنغازي، والمجازر، وجثث الأطفال في أكياس النايلون، وعصر الشبيحة والبلطجية، وماذا بعد؟