محمد كريشان

صعب جدا أن يتعود المتابع للساحة الفلسطينية على خلوّها المحتمل بعد أشهر قليلة ربما من رمزين بارزين طوال السنوات الماضية: الرئيس وزعيم 'فتح' محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة 'حماس' خالد مشعل. الأول أكد مرارا بأنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية المقررة مبدئيا في أيار/ مايو المقبل والثاني أعلنت حركته مؤخرا أنه أعرب عن عدم اعتزامه تجديد ترشيحه لرئاسة المكتب السياسي. وإذا ما تأكد انسحاب الرجلين، فستكون النتيجة خسارة مزدوجة لطرفين شاءت السياسة أن يُـصنفا على أنهما من معسكرين مختلفين بل ومتناقضين: معسكر التسوية ومعسكر المقاومة. اللافت أن يحدث هذا في وقت اقترب فيه الرجلان مؤخرا من بعضهما البعض وفق قاعدة 'نعمل فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه'.
عرف عن عباس عناده الشديد في بعض المواقف التي يتخذها فهو يظل متمسكا بها إلى الآخر حتى لو ظن البعض أنه قد يغيرها في آخر لحظة. عـُـرف بما يسمى الحرد (الغضب والاعتكاف) في علاقته مع رفيق دربه ياسر عرفات وهو مستمر عليه إلى الآن مع غيره بإخراج يناسب موقعه الجديد. عباس أكد عشرات المرات أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة وسيفعلها. حتى عندما 'ابتزته' حركته 'فتح' بالقول إنها لا تملك غيره مرشحا قال إذن على غيرها أن يرشح من يراه. لقد تحمل عباس من أصدقائه وحلفائه أكثر مما تحمل من أعدائه وواضح الآن أنه لم يعد قادرا على المزيد فقد 'قرفهم' جميعا على ما يبدو. 'أبو مازن' وإن كان لا يختلف مع الزعيم الراحل 'أبو عمار' في طبيعة التسوية التي يمكن أن يقبل بها أو يوقــّع عليها إلا أنه مختلف عنه بالتأكيد في القدرة على تحمل الأذى بل والاستمتاع به أحيانا كتحد من الرائع كسبه، حتى وُصف 'الختيار' بطائر الفينيق الناهض دوما من رماده. ومثلما خسرت الولايات المتحدة والغرب عموما وإسرائيل طبعا فرصة الراحل عرفات لإبرام تسوية عادلة، بمعايير القانون الدولي وليس الحق التاريخي، فسيخسرون بذهاب عباس فرصة ثانية قد لا تتكرر أبدا وسيندمون عليها أشد الندم.
أما مشعل فسيكون ذهابه خسارة كبرى لمعسكر المقاومة وبالتحديد لكل من راهن على 'عقلنة' المقاومة وإخراجها من استمرائها الكلام الإنشائي المنمق في الحديث عن المقاومة مع فعل ميداني غائب أو محدود أو كارثي النتائج. حركة 'حماس'، ككل الحركات المؤدلجة، من الصعب أن تجد فيها من القادة من يفتح قلبه لاعتراف صريح صادق لا يستنكف من الاعتراف بالأخطاء أو التقصير هنا وهناك وقد شرع مشعل في شيء من هذا. ما لم يقله 'أبو الوليد' وقد لا يقوله أبدا أن أمله خاب كثيرا في البعض من حركته وفي حلفائه في دمشق وطهران وبيروت بعد أن استمر نزيف القمع في سورية فقد قاوم الرجل محاولات جره لاصطفاف غير مقنع ولا أخلاقي مع نظام الأسد. بالتأكيد لم يتحمل الرجل أيضا ذلك الغمز أو التسفيه أو المزايدات القادم من إخوانه في غزة بعد اقترابه الأخير من محمود عباس وحرصه الشديد على إتمام المصالحة. لم يراعوا هؤلاء حتى ما جاء في الأثر بأن 'ما تكرهون في الاجتماع خير مما تحبون في الفرقة'. لم يعجبهم حديثه عن 'المقاومة الشعبية' ولا عن تفهمه لما صارحه به محمود عباس في جلسات مغلقة. انتشى هؤلاء بفوز الاسلاميين في انتخابات تونس ومصر وغيرها وظنوه ربيعا إسلاميا مع أنه ليس كذلك. لم يروا أن سياسة الوفاق والبحث عن القواسم التي انتهجها مشعل مع عباس هي الطريق الأمثل فكثير منهم يفضل على ما يبدو مواصلة إتعاب الحناجر بالشعارات، ربما لأنه لا يجيد شيئا آخر.
رغم أن محمود عباس وخالد مشعل يبدوان كنقيضين إلا أنهما في واقع الحال يكمّـل كل منهما الآخر. ذهابهما ضربة قاسية من ناحية لكل من راهن أن التسوية العادلة ممكنة مع الإسرائيليين، ومن ناحية أخرى لكل من تمنى أن يكون للمقاومة عقل كذلك.. إلى جانب العضلات.