أمينة أبو شهاب


كان مشهد هدم النصب التذكاري لجمال عبدالناصر الذي حدث يوم السبت الماضي هو بنغازي الحالية في بوصلتها وإلى أي معنى ووجهة تشير، وهو أيضاً ما تقوله هذه المدينة عن الثورات الأخرى، باعتبارها، أي بنغازي، الوجه الأوضح فيها، وباعتبار أن لغتها هي الأكثر تعبيراً . إن أكثر ما يقرأ التاريخ ويستعاد مجدداً وبشكل تلقائي هو في وقت التحولات والأحداث الكبرى، وعبدالناصر في أيامنا هذه كان الغائب الذي حضر في الثورات بفرض من قوة التاريخ وحقيقته كقرين للحدث السياسي، وكان في معية عبدالناصر في هذه الثورات كغائب حاضر قادة تاريخيون أحيتهم وجعلتهم شهوداً مقارعتهم للاستعمار، هذه المقارعة التي هي العلامة الأبرز في حياة العرب .وهكذا، فحضور عبدالناصر في الذهن العربي ليس له ارتباط بالمجسدات المادية ولا بالأحجار، ولذلك فهو لا يُشطب بشطب ما يرمز إليه في ميادين المدن وهي في أرديتها الجديدة، أسقط النصب التذكاري، ولكن التجربة السياسية لناصر في تضادها وتناقضها مع توجهات ثورات اليوم، تقف مهيبة وعالية وزائدة الاحترام، وذلك رغم ما عرف عنها من فشل عسكري، وفشل في إقرار الحريات كحقوق عامة .
هذا التضاد البارز والواضح لمشروع عبدالناصر القومي في جزء لا يستهان به من الذهن الشعبي العربي مع واقع ثورات اليوم كلما ازداد إدراكها له، هو ما يبدو أنه لا يطاق وهو ما تم الاقتصاص منه بإطاحة النصب التذكاري في فضاء بنغازي وسمائها، وهو ما يدعو لقراءة الثورات الديمقراطية العربية من جديد من خلال هذا الحدث، وذلك حذر روح الاقصاء، وهو إقصاء التاريخ هذه المرة، وتحويله إلى وثنية تكسر وتدمر وتفكك وتوسم بكل أوصاف السواد وذلك باسم الديمقراطية .
ماذا حدث في بنغازي يوم السبت الماضي؟
غُير اسم أطول شارع في المدينة الذي يحمل اسم عبدالناصر إلى اسم آخر، أما النصب التذكاري له في الشارع نفسه فقد تولت أمره جرافة عملاقة أطاحت بلوحه الحجري الأعلى والأكبر الذي يتوسطه ويرمز لناصر مهشماً على الأرض . الأيدي التي كانت تحمل المطارق الحديدية والمعاول ldquo;ومعها الكاميرات أيضاًrdquo; كانت للإعلام فقط، وكانت جزءاً من طقس يتكرر في كل تحول رئيس يحدث في بلد عربي وذلك بالرجوع للمشهد العراقي بعد الاحتلال .
وكانت الحناجر هي لإطلاق صيحات النصر والتكبير بعد سقوط النصب أحجاراً، هكذا أريد لناصر أن يكون ldquo;الوثنrdquo; الذي تمثل إطاحته به وتمزيقه حجراً حجراً انتقالة من الظلام، ظلام الزمن القومي الناصري أو ظلام الدولة الوطنية والقومية إلى النور والحق والديمقراطية الجديدة .
ولا مجال هنا في هذا المشهد الطقوسي لأي احتمال بأن يكون الهدم مظهراً من مظاهر العفوية الثورية أو الفوضى، فقد تم تحت إشراف وحراسة لواء عسكري، وقد رتب له كذلك حضور إعلامي مكثف من الصحافة والإعلام الأجنبي، كما لا مجال أيضاً لاحتمال أن يكون فعلاً دينياً موجهاً ضد ما اعتبر محرماً وهو التمثال، الذي لم يكن حاضراً في القصة كلها، بالعلم أن ما هدم كان نصباً تذكارياً ولم يحتو على أي تمثال منصوب . والحقيقة أن موضوع ldquo;الوثنrdquo; وrdquo;الوثنيةrdquo; قد تم التلاعب بهما وبما يستدعيانه في الذهن، وتم العمل من خلال النقل الإعلامي على مغالطة تفكير القارئ ليكون مذبدباً بين فكرة أن ما تم هدمه هو تمثال يمثل محرماً إسلامياً، والفكرة الأخرى هو رمزية عبدالناصر يقع القارئ العادي وغير المتمحص في شبك الانطباع الأول الزائف وغير القائم على أساس نظراً لأن الخبر يتضمن كلمة ldquo;تمثالrdquo;، ونظراً كذلك لأنه يختتم بعبارة واحدة ترد في كل الروايات في الهدم وهي تنص على احتمال يوضح أمام القارئ وهو أن يكون الهدم لأسباب ldquo;دينيةrdquo; . ليس التمعن في صور الأحجار المهشمة وفيديوهاتها حيث لا توجد فيها آثار لتمثال بل لرسم بارز بشكل خفيف فوق الرخام وهو ما ينقض الالتباس، بل الاطلاع كذلك على حيثيات الطقوس التي تمت والتي عومل فيها عبدالناصر ldquo;كوثنrdquo; دكتاتوري في الأذهان، وتمت كذلك نسبة كل الدكتاتوريات العربية إليه، وهذا ما أوجب هدم ldquo;الصنمrdquo; في نظرهم .
تقول ldquo;رويترزrdquo;: وقال شيخ يحمل في يده مكبر صوت يدوي وهو يعتلي النصب المنهار: ldquo;هذا طاغوت آخر سقطrdquo; . كما قال مسؤول كتيبة ليبيا الحرة وسام بن حميد لليبيا اليوم: ldquo;إنه إسقاط لرمز من رموز الدكتاتورية والتفرد وهو علامة على نهاية حقبة الاستبدادrdquo; .
لا وجود للالتباس هنا، وهي وجهة النظر التي لا تحتمل التاريخ الآخر، التاريخ التحرري القومي، ولا تواجده معها في الفضاء نفسه إنها لا تناقشه ولا تحاوره، بل تنفيه تماماً وتقصيه وتهدم معالمه، ولا تبقي منه ومن مآثره وتاريخه أي أثر سوى ldquo;الدكتاتوريةrdquo;، وعن هذه الصفة الأخيرة يكتب قارئ تعليقاً على الخبر في أحد المواقع: ldquo;دكتاتور نعم، ولكنه كان دكتاتوراً نقياً طاهراًrdquo;، ويكتب آخر: ldquo;عبدالناصر لم يكن كاملاً، ونظامه ارتكب أخطاء كثيرة، لكنه يظل زعيماً تحررياً خالداً، ومهاجمته في هذا العصر هو إحراق للبقعة المضيئة الطاهرة في تاريخنا المعاصرrdquo; . ويكتب قارئ كلاماً شبيهاً: ldquo;يبقى عبدالناصر الأسطورة التي ركّعت وأذلت الاستعمار - هناك أخطاء لعبدالناصر، ولكنه هو المحرر لأغلب الشعوب العربية، من الجزائر وحتى الخليج العربيrdquo; .
هؤلاء هم كانوا الأغلبية التي رفضت الهدم وفهمت أبعاده، وهم من دافعوا عن عبدالناصر ولم تدافع عنه كثير من الأحزاب التي تنتمي إلى اسمه، ولم يدافع عنه المثقفون كذلك بعد أن أصبح تاريخه مباحاً للهدم .