حمزة بن محمد السالم
هناك مشاهد يراها الإنسان فلا ينساها أبدا، ولا تزال تعود مناظرها حينا بعد آخر إلى مخيلته دون استئذان ولا استجلاب. هذا النوع من المشاهد يُشكل في عقل الإنسان الباطني خلفية تصور ينبني عليه حكمه في أمور مماثلة. ومن أعظم المشاهد وأثر في نفسي، مشهد لبعض المسلمين عند قبر في مسجد في إحدى الدول الشقيقة يدعون عنده ويتوسلون به بالدعاء وبالرسائل المكتوبة ويقربون النقود والخبز إليه. وهذا النوع من الضلال لم يعد منتشرا بحمد الله، وأصبح مقتصرا على فئات من دراويش الناس ومن دار في فلكهم من المرضى النفسيين والمشعوذين. ومن أسباب تناقصهم انتشار العلم التكنولوجي بمعناه الواسع، مما جعلهم لم يعودوا يصلحون للعبة السياسية الحديثة.
أفول نجم دراويش أهل القبور الأموات حل محله سطوع نجم مثقفي الشيوخ الأحياء. فأصبح هناك شيوخ يفتون بالتحليل والتحريم بالرأي المجرد صراحة دون الكتاب والسنة. وأتباع هؤلاء الشيوخ -وعلى خلاف دراويش القبور- فإن غالبهم من المثقفين والعقلاء من الإسلامين ومن غيرهم. ولكنهم كدراويش القبور، تراهم يُسلمون لهؤلاء الشيوخ دون تفكر وتدبر في شرعية قول الشيخ أو في شرعية عمله. فإن كان شرك الدراويش قد أفل نجمه، فإن شرك العقلاء قد سطع نجمه. فالتحليل والتحريم من صفات الربوبية، وتوحيد الله فيها بعدم الافتيات عليه هو من أعظم مراتب التوحيد. قال تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وقال أيضا وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ وقال أيضا فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وقال أيضا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
وعن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}. قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه. رواه الترمذي.
في حوار لي مع أحد الفضلاء العقلاء، جاء ذكر الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، فسألت صاحبي : هل سمعت الشيخ يوسف مؤخرا يستشهد بدليل شرعي في مكان الخلاف؟ فقال بعد تردد على أي حال فالشيخ قد وصل إلى مرتبة الاجتهاد ( فأين نحن من آيات قم). فقلت الاجتهاد في صورته النقية هو تنزيل النصوص على الحوادث بعلة منضبطة، وأما الاجتهاد في صورته المشوهة المحرفة فهو الترجيح بين أقوال الفقهاء. وحال الشيخ القرضاوي اليوم يحكي أنه ليس على أي من هذين النوعين. فيبدو أنه قد تجاوز كلام الفقهاء القدماء واستنباطاتهم من الأدلة الشرعية - وله حجة قوية في ذلك، فما الأموات بأعرف بأحوال اليوم منا-. ولكنه في تجاوزه هذا لم يعد إلى الكتاب والسنة، بل إلى رأيه المحض المجرد بدعوى فقه المقاصد وفقه الأقليات وفقه المناسبات.
راهنت مدرسة القرضاوي على دماء المسلمين في الربيع العربي وربحت الرهان، فسجلت مواقف سياسية إيجابية رائعة دفعتها إلى قمة المرجعية الإسلامية اليوم. مدرسة القرضاوي مدرسة باهرة الأضواء قوية التأثير، ولكنها قصيرة الأمد. فهي قائمة على شخص سياسي محنك يحكم في الدين برأيه بما يلامس به عواطف الناس. والمدرسة اليوم تبحث عن خليفة له، ففلسفتها تدور حول التسليم لشخص والتفاف الأتباع حوله وتكون آراءه المجردة وكأنها وحي من الله. إلا أن أقواله لا تدوم بحسب دستور المدرسة الذي لا يرى أي مرجعية لقول أحد، حتى الكتاب والسنة (ويستشهدون بفعل عمر الفاروق، باستخدام قياس الشبه الباطل المذموم في القرآن). مدرسة القرضاوي، مدرسة رأي محض بلا مرجعية دستورية مطلقا، مما يجعلها مكانا خصبا للنزاعات المستقبلية، وليس لها جذور مرجعية تقيها من العواصف والانتكاسات، فهي كشجرة البرسيم تنمو سريعا وتزول سريعا، في المحيط الإسلامي. حتى ولو أصبحت يوما ما مستقبلا في المحيط السياسي غطاء لأسلمة نبذ الكتاب والسنة، فهي ستكون كخطوة تمهيدية لعزل الدين بالكلية عن حياة المسلمين، كما هو الحال في الغرب.
فقه المقاصد والمناسبات عند القرضاوي سلاح ذو حدين. فهو وإن كان من عوامل افتتان الناس به اليوم ولكنه أيضا هو الثغرة الشرعية والإنسانية والعقلية ضده. والمسكوت عنه هنا هو أن هذه الثغرة ستظل في أمان، ما لم يقم بديلا عنها.
التعليقات