خضير بوقايلة
يحتفل التونسيون بعامهم الأول من الثورة الشعبية على وقع تجاذبات وتصادمات لا تبشر بخير، بل إنها تنذر بقدوم فتنة قد تجعل أبناء هذا البلد يبكون حسرة على عهد مضى ذاق فيه الناس كل الويلات.
كل الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي استطاعت أن تجلب دعم الغرب لها عندما أقنعته أنها الدرع الواقي والضروري لردع الخطر الأصولي الإرهابي ومنعه من بسط نفوذه في المنطقة أو نقل معاركه إلى عقر الدار الغربية، وقد أجبرت البلدان الأوروبية وأمريكا نفسها على تصديق هذه الأكذوبة وساهمت من جهة في دعم هذه الديكتاتوريات ومساعدتها بالمال والسلاح والكلمة الطيبة والخبرة التكنولوجية والتعذيبية لقمع الشعوب المستضعفة، ومن جهة ثانية في تضخيم الخطر الأصولي والبعبع الإسلامي لتبرير مواقفها أمام رأيها العام المحلي على الخصوص. وقد تحول هذا الغرب دون حياء ولا أسف أو ندم إلى داعم ومساند من أجل بسط نفوذ نفس التيارات التي كانت على رأس قوائم الإرهاب والخطر الأصولي المتطرف والمتشدد تحت عنوان احترام اختيارات الشعوب والديمقراطية، وهذا ما شاهدناه بوضوح في مصر وتونس وليبيا على الأقل.
التونسيون حققوا نصرا مبينا على الحكم الظالم وتقدموا خطوة شهد العالم كله بصفائها وسلاستها خلال انتخابات المجلس التأسيسي الأخيرة، ثم انطلقت مسيرة الدولة الجديدة بتعيين تآلف حكم ثلاثي بين أهم القوى السياسية في البلد ميزتها أنها تنتمي إلى تيارات إيديولوجية متباعدة حتى لا أقول متنافرة. صورة ناصعة ومشرقة ظهرت عليها تونس ما بعد ثورة الياسمين بعثت الأمل والرضى في نفوس كلت وكادت تيأس من حلول عهد تستعيد فيه بلدانهم وضعها الطبيعي، لكن قوى الشر لم تيأس واستمرت في نسج مؤامرتها الشيطانية من أجل تشويه سمعة هذه الثورة الطاهرة وتحويل البلد إلى حالة فوضى دائمة. تونس شهدت عدة محطات للفتنة كان الإسلام فيها جميعا المتهم الأول، حتى يقال للناس هذا هو الإسلام الذي أردتموه وهذا هو المصير الحتمي الذي سيقودكم إليه. من هذه المحطات أذكر الضجة التي أثيرت حول منقبة منعت من دخول الجامعة، الضجة التي قامت حول بث قناة تونسية فيلما يتعرض إلى الذات الإلهية، الضجة التي ثارت حول نشر صحيفة تونسية لصور مخلة ثم الزوبعة التي هزت البلد بمناسبة زيارة الداعية الإسلامي وجدي غنيم إلى تونس. في كل هذه المحطات ظهر الإسلام عامل تفرقة وفتنة بدل أن يكون موحدا وجامعا لشمل أبناء البلد الواحد. أزلام النظام البائد ليسوا وحدهم الفرحين بظهور هذه الفتن في تونس، وربما كانوا هم المحرضين، بل أيضا الأنظمة الفاسدة الأخرى التي ترى زوالها آتيا لم تتوان هي الأخرى عن النفخ في الرماد والعمل بما أوتيت من خبث من أجل إفشال هذه الثورات المباركة حتى تحذر رأيها العام المحلي من مغبة التحرك في ذلك الاتجاه.
حركة النهضة لما أثبتت من خلال تصريحات قادتها وتصرفاتها أنها تنافس العلمانيين في العمل الديمقراطي بل لعلها صارت تزايد عليهم، اتجه أهل الفتنة إلى تحريك التيارات المعروفة بتشددها واستفزاز الرأي العام بأفعال لم يكن هناك داع إليها، وإلا بماذا نفسر بث فيلم سينمائي يتعرض لذات الإلهية في بلد مسلم، ونشر صور خادشة للحياء والأخلاق العامة على صدر الصفحة الأولى من صحيفة تصدر في بلد مسلم؟ وعندما يتحرك الرأي العام غيرة على دينه نسارع إلى توجيه الاتهام للثورة والتيار الإسلامي الذي انبثق عنها. ولعل أشد صورة صدمتني هي صورة تلك المرأة التونسية المتحجبة التي وقفت أمام الكاميرات في مدينة المهدية تندب مصير تونس وتتحسر على سنوات الستينات، كانت المرأة تعلق على مشهد لشباب تونسيين يحملون أعلاما سوداء عليها عبارة لا إله إلا الله ويهللون ترحيبا بالفاتح وجدي غنيم، طبعا كان هؤلاء يردون على استفزاز آخر من متظاهرين غير راضين على زيارة هذا الداعية المصري إلى بلادهم. المرأة بكت حسرة على ما شاهدت وتوقعت للبلد مستقبلا أسود قاتما على غرار تلك الرايات المرفوعة أمامها، ولم تتفطن تلك التونسية أنها كانت تتحسر على فترة كان فيها الرئيس بورقيبة يجبر التونسيات على خلع خمارهن ولا تزال المواقع والأفلام الوثائقية شاهدة على ذلك.
قد يكون ما يعرف الآن بالتطرف الإسلامي شيئا غير مذكور في عهدي الرئيس لحبيب بورقيبة وخليفته زين العابدين بن علي، لكن على التونسيين أن يدركوا جيدا أن ثمار ما يرونه الآن تطرفا وتشددا قد زرعت بذوره في الستينات وما تلتها من عقود.
الحرب المتطرفة التي كان يشنها بورقيبة وبن علي ضد الإسلام الطبيعي الذي كان منتشرا بين التونسيين هي التي ولدت هذا التطرف الذي نراه اليوم وجعلته يثور ضد أي شيء يذكره بالاستفزازات التي كانت مسلطة على الشعب في السابق، والتشدد الذي يظهر به البعض الآن هو الذي سيولد، إن استمر، تطرفا آخر لن يكون ضحيته سوى التونسيين أنفسهم ومن ورائهم الدين الذي يظهر لهؤلاء المتشددين أنهم يغارون عليه ويدافعون عنه. ولا بد من الإشارة هنا إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه الداعية وجدي غنيم عندما انطلق في تصريحاته النارية تكفيرا وشتما وقدحا في التونسيين الذين تظاهروا ضد زيارته، فقد كان أجدر به أن يتقيد هو الآخر بتعاليم الدين وأوامر الله التي يتبناها وفيها أمر للدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة يا شيخ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وهذا ليس كلامي بل هي أوامر رب العالمين أنزلها في كتاب المسلمين.
تونس بلد مسلم بالفطرة والذين يحاولون عن سوء أو حسن نية اختبار الديمقراطية الجديدة إنما هم مخطئون ولن يستفيدوا من ذلك شيئا إلا الفتنة. في القرآن الذي نؤمن به ونلتزم به كمسلمين آية يقول لنا فيها ربنا (لا إكراه في الدين)، وهي موجهة أصلا للذين يتبنون التطرف والتشدد في تعاملهم مع كل من يخالفهم الرأي ولو في بعض تفاصيل الدين السمح، لكن هذا لا يمكن أبدا أن يكون ذريعة لمن يكره الإسلام أو المتطرفين أن يتحرى الاستفزاز وتهييج مشاعر المسلمين تحت ذريعة الديمقراطية وحرية التعبير أو اختبار الحكومة التي أفرزتها الانتخابات الحرة الشعبية، حتى إذا بدر عنها أي تصرف مضاد سارع هؤلاء إلى فضح الممارسات غير الديمقراطية وتخويف الناس بما ينتظرهم من وراء حكام تونس الجدد الذين أثبتوا عمليا أنهم مستعدون للعمل مع جميع خصومهم السياسيين والتعاون معهم، وليس أدل على ذلك من التعايش الذي نراه قائما على مستوى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان.
الشعب حقق نصرا تاريخيا في تونس ضد الظلم والديكتاتورية، فلا يحق لأي أحد من الغلاة والمتشددين والمستفزين من هنا أو هناك أن يغتالوا هذا الحلم الجميل، فليس في الدين الإسلامي ولا في الديمقراطية ما يبرر مثل هذه الأعمال.
- آخر تحديث :
التعليقات