نبيل علي صالح
منبر الحريةبعد ظهور نتائج الانتخابات التي أجريت في كل من تونس ومصر، وحصول التيار الإسلامي على الغالبية في كلا البلدين بعد تأييد كاسح من الناس للإسلاميين، أثيرت مخاوف لدى الكثير من التيارات والنخب الفكرية والسياسية العلمانية، من منطلق عدم وفاء هذا التيار للمواثيق والعهود التي سبق له أن قطعها -قبل الانتخابات- بخصوص إيمانه بالدولة المدنية، وبقيم الحداثة العقلية، وضرورة فصل الدين عن السلطة (وليس فصله عن الدولة!).
ولكن، في الجانب الآخر يتساءل آخرون عن السبب وراء الدعوة لعدم السماح بتجربة حكم جديدة يمكن أن يكون احتمال تنفيذ وتطبيق برامجها ومنظومتها في الحكم والإدارة بصورة صحيحة -تناسب مصالح الناس- عاليا وكبيرا؟ ولهذا ما الضير في أن يبدأ الإسلاميون بتجربة الحكم الديمقراطي المدني التعددي، خاصة أنهم يحظون بشعبية ونسبة تأييد كبيرة في الشارع العربي (المتدين بطبعه)، وهم أيضا من أشد المعارضة السياسية تعرضا للبطش والاعتقال والملاحقة والإقصاء المتعمد والتهميش المقصود والاستبعاد الممنهج والمنظم ضدهم وضد طروحاتهم وأفكارهم على أيدي جماعات السلطة العربية المستبدة طيلة عقود من الزمن؟ ثم إن الشعب نفسه -الذي أوصل هؤلاء إلى سدة مسؤولية الحكم والإدارة- سيحكم عليهم وعلى تجربتهم لاحقا؛ لأن هذا الشعب الذي لفظ وثار على جلاديه الديكتاتوريين السابقين سيثور أيضا على غيرهم بعد منحهم فرصة النهوض والتطوير لبلدانهم المنهكة. فلماذا الحكم على الإخوان المسلمين وعلى غيرهم من الإسلاميين بالعدم قبل تجريبهم على محك الواقع ومحرقة التطبيق؟ أليست هذه قمة العدمية والإلغائية السياسية للآخرين؟ ثم أليس من حقهم أن يجربوا أفكارهم المتعلقة بمختلف شؤون الحكم والدولة التي أمضى ووافق الشعب عليها في الانتخابات الأخيرة، خصوصا أنهم أعلنوا في كافة مواثيقهم إيمانهم وقناعاتهم بالعملية الديمقراطية من ألفها إلى يائها؟
من هنا من حق الجميع أن يعاينوا على الأرض تجارب ونماذج حكم سياسية جديدة الأحزاب والمفاهيم بعد عقود طويلة من هيمنة طغم laquo;عسكر الأريافraquo; الرثة والثرية على بلداننا وثرواتنا (منذ أن بدأ بها عبدالناصر في انقلابه عام 1952، التي لم نذق من وقتها إلا طعم الخسارة والمهانة والتخلف والقهقرى التاريخية)؟
نعم لقد فاز هؤلاء بالانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد عربي، والشعب لم يعطهم بالمناسبة النسبة الكاسحة من الأصوات، أي أنه لم يوكلهم بالمطلق، ولهذا فهم مجبورون بالتضامن والتكامل والتحالف مع باقي فصائل وحركات وتيارات سياسية أخرى لتشكيل الحكومات، والبدء بمسيرة العمل والبناء الداخلية بعيدا عن لغة العطالة التاريخية، لغة الإيديولوجية المتحفية، لغة الشعارات الطنانة الفارغة التي تقدم مشاكل وتحديات وصراعات الخارج على حساب قضايا التنمية الداخلية الملحة لمواطننا العربي الذي انتفض وثار كل تلك الثورات، ودفع كل تلك الأثمان الباهظة ليعيد توجيه بوصلة ودفة السياسات الحكومية نحو الداخل للنهوض والتحديث الحقيقي؛ ولهذا رأينا أنه لم ترفع لافتة واحدة في كل تلك الثورات عن مشاكل وتحديات الخارج، بل الهم الأكبر كان هو تطوير السياسة الداخلية اجتماعيا واقتصاديا. فالناس تريد حلولا جدية لأزمات بطالتها وعطالتها وعيشها خارج منظمات الدول الاقتصادية الكبرى. تريد بناء مجتمعات حضارية علمية، ومدن حديثة فيها مساكن وعمارات وبنى تحتية ذات إنتاجية حقيقية كبيرة..
وتريد أيضا أن تساهم وتشارك بقوة في تطوير بلدانها سياسيا من خلال مساهمتها الحرة في القرار الوطني المستقل المسؤول.. إنها تريد أن تنتخب بصورة صحيحة وحرة بعيدة عن كل أنواع الضغوط والإكراهات، وأن ترشح بصورة صحيحة وحرة، وألا يتدخل في حياتها الأمن والعسكر على laquo;الطالعة والنازلةraquo;.. وأن يكون كل شيء يتعلق بتطوير ونهضة أوطانها وبلدانها مضبوطا بقوة النظام العام وحيادية ومساواة القانون، ومصانا بالدستور حامي الوحدة الوطنية..
وفي ظني أن الذي سيساعد كثيرا على ضمان عدم نكث الإسلاميين بعهودهم تجاه مسألة الدولة المدنية والفكر الديمقراطي التعددي، والخضوع لصندوق الاقتراع بالكامل (سلبا أم إيجابا) هو وجود اتفاق كوني عام وشامل على نهاية عصر الإيديولوجيات الشمولية واندحار عصر القائد الفريد الملهم (شمس الشموس وابن الآلهة وغيره..)، وبدء عهد المواطنة وحقوق الإنسان..
كما أن الناس في كل المجتمعات العربية باتت لها همومها المشتركة وشبه الواحدة -مثل باقي الناس في دول أخرى مع الاختلاف في بعض التفاصيل والدوافع- وهي العيش بأمان وسلام وحرية وكرامة واقتصاد حر رفاهي (إذا صح التعبير)، خاصة مع تفتت المرجعية السياسية والدينية عموما، وتحلل مقومات الاعتقاد الجماعي، والمرور إلى أنماط التدين الفردي والذاتي كما قال الباحث laquo;أوليفييه رواraquo;. وهذا ما أسميه بحالة laquo;الخلاص الفرديraquo;، أو نزعة الخلاص الفردي التي باتت تتحرك بقوة في كثير من مواقع ومفاصل اجتماعنا السياسي والديني العربي والإسلامي.
وبالدخول إلى تفاصيل بعض تلك العملية الانتخابية التي حدثت في مصر وتونس، وجدنا أن التيار الإسلامي الفائز (الإخوان المسلمين) -والأحزاب التي تمثله على الساحة السياسية الذين فازوا في انتخابات في عدة دول عربية، وهم ماضون وسائرون للفوز بها أيضا في بلدان أخرى تخوض غمار صراعات سياسية وعنفية- لم يكن ولن يكون أمامهم إلا أن يتحالفوا مع باقي التيارات السياسية وبالأخص الليبرالية منها لتقديم صورة جديدة للتشارك السياسي الفاعل في بناء صورة عملية مشرقة لأوطان المستقبل القادمة من وجع الحرية ولهيب البناء الديمقراطي الممزوج بأماني وآهات وتطلعات الناس الثائرة على ماضيها السياسي العفن. وفي ظني أنه يجب على التيارات الدينية وبالأخص منها حركة وحزب الإخوان المسلمين ألا يفرحوا كثيرا لحصول حزب النور السلفي على نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان المصري تؤهله إذا ما تحالف معهم (مع الإخوان) للانفراد بالحكم السياسي في مصر.. لماذا؟! لأن هذا الحزب الجديد ليس له أدنى خبرة في ممارسة شؤون الحكم والسياسة، كما أن له خطابا وعظيا مسجديا عتيقا وشبه عدمي قوامه وركنه الأساسي ذهنية الحلال والحرام، وعقلية laquo;الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرraquo;.. وهذه صورة واضحة ومعبرة لاستغلال أوجاع الناس وهمومها وتعقيداتها وحاجاتها الحياتية وقناعاتها وعقائدها التاريخية، كواجهة لركوب موجة الديمقراطية بدعوى خدمة مصالح الشعب والأمة، كما أن هذا الحزب هو بالأساس حزب دعوي تبشيري وليس حزبا سياسيا خدماتيا.
وبالإضافة لما تقدم، فإن الذي سيدفع أكثر لحدوث التحالفات الجديدة بين التيارات الإسلامية وبين غيرها (كالليبراليين أصحاب الخبرة في مسألة الدولة والحكم) هو أن معظم تنظيمات وتشكيلات الإسلاميين لم تقبض سابقا على عنصر الخبرة والممارسة المطلوب لتسيير دفة عمل الدولة والإدارة والنظام السياسي.. أي أنها كانت -نتيجة إقصائها وتغييبها وسجنها- بعيدة كليا عن تسيير الشأن العام وتدبير مختلف شؤون الحكم، حيث إن معظم كوادرها كانوا إما في المعتقل أو في المهجر أو تحت الأرض، الأمر الذي فرغ تلك الحركات من مضامينها العملية، وحرمها من كفاءات وخبرات وكوارد تنظيمية وسياسية ومهنية وفنية كثيرة.
ينشربالتعاون مع مشروع laquo;منبر الحريةraquo;
التعليقات