يوسف عبدا لله مكي


مع سقوط جدار برلين، وانهيار الجمهوريات الاشتراكية في شرق أوروبا، وتفتت الاتحاد السوفيتي، تربعت أميركا على عرش الهيمنة. وكان عليها أن تعزز موقعها بالاستعانة مجددا بنظرية القوة، كما صاغها كيسنجر في السبعينات من القرن المنصرم

لكل مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني بصمة خاصة بها، لكن ذلك لا يلغي وجود عناصر ناظمة للعلاقات الدولية، تمتلك صفة الثبات النسبي، في كل مراحل العصر الحديث. فالانتقال من نظام دولي لآخر، محكوم باستمرار بتوازنات القوة. وهذه التوازنات تعبر عن ذاتها، في صيغة حروب يشنها الطرف الأقوى ضد الطرف أو الأطراف الأضعف، ليحسم بشكل لا لبس فيه، موقعه في خارطة الصراع الدولي.
بموجب هذه العناصر الناظمة، تشكل في القرن المنصرم نظامان دوليان، الأول هو أحد إفرازات الحرب الكونية الأولى، وفيه هزمت ألمانيا وتركيا وخرجت روسيا من الحرب، وكانت الريادة في هذا النظام للاستعمار الغربي التقليدي، ممثلا في بريطانيا وفرنسا. وقد بقيتا كذلك، رغم أزماتهما الاقتصادية، حتى نهاية الحرب الكونية الثانية.
توجت نتائج الحرب العالمية الثانية الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي، كأعظم قوتين عسكريتين على وجه الكرة الأرضية. أدى اكتشاف السلاح النووي من قبل الأميركيين، ولحاق السوفيت بهم في هذا الكشف بعد فترة قصيرة جدا، لخلق حقائق جديدة غيرت من طبيعة المواجهات العسكرية بين القوى العظمى. فمواجهات كهذه في ظل امتلاك هذه القوى للسلاح النووي والقنابل الذرية تعني فناء محتما للبشرية، ومن هنا ساد منطق جديد وبسمات جديدة في الصراع.
السمة الأولى للصراع، هي طبيعته الإيديولوجية، فهو صراع بين معسكر رأسمالي، يقوده الأميركيون، يؤمن بالحرية الاقتصادية، وبفوضى السوق، وبين معسكر شيوعي، يضيق الخناق على الحرية، ويجعل من الدولة مالكة لوسائل الإنتاج. وكان الصراع في جانب منه يجري على امتلاك العقول، ودعم القطبين المتنافسين للأنظمة الموالية لهما في كل القارات.
ولأن العلاقات بين الدول، تقوم بالأساس على صراع الإرادات، وليس على التعاون الدولي، برزت محاولتان رئيسيتان، لترصين الصراع، بتعضيد السلم في العالم. الأولى تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب الكونية الأولى، وتشكيل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، وإعلان مواثيق تؤكد على ضمان السلم العالمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة، لكن ذلك بقي دائما حبرا على ورق. يدلل على ذلك ما شهدته كرتنا الأرضية من حروب دامية ذهب ضحيتها الملايين من البشر.
والحديث عن الحروب يجرنا إلى سمة أخرى في العلاقات الدولية ارتبطت بالنظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب. هذه السمة ارتبطت بعدم قدرة أي من أقطاب المعسكرين على خوض معركة مباشرة ضد القطب الآخر. بمعنى، عدم إمكانية قيام تصادم عسكري مباشر بين السوفيت والأميركان، حتى مع استمرار حالة التوتر في العلاقات بينهما. لقد كان البديل عن ذلك هو استبدال الحروب التقليدية، بما أصبح متعارفا عليه بالحرب الباردة. وهو تعبير أخذ مديات مختلفة. وقف الاتحاد السوفيتي يناصر حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا. وحرصت الإدارة الأميركية على ضمان تبعية quot;حديقتها الخلفيةquot; لها، وابتعادها على المعسكر الشيوعي، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير. وكانت كوبا هي البلد الوحيد الذي خرج عن الهيمنة الأميركية.
ومن جهة أخرى، عمل الأميركيون، في الخمسينات على تطويق السوفيت بقوس عسكري، يمتد من باكستان شرقا إلى تركيا جنوبا، ويضم بالإضافة إلى باكستان، إيران والعراق وتركيا. كما تشكل حلف الأطلسي، الذي أسس السوفيت في مواجهته حلف وارسو، من الدولة السوفيتية ودول شرق أوروبا، الاشتراكية.
واقع الحال، أن هذه الترتيبات أكدت، من جهة، طبيعة الصراع، ومن جهة أخرى، أوجدت تفاهما ضمنيا بين الغرماء الأميركيين والسوفيت أقر بوجود مناطق نفوذ للمعسكرين، يعتبر التعدي عليها تجاوزا للخطوط الحمراء. وكانت بداية القسمة والتفاهمات بين القطبين قد تمت في يالطة بعد الانتصار في الحرب، لكن ترتيبات لاحقة أضيفت لها أثناء الحرب الباردة. وقد التزم الأميركيون والسوفيت بتلك الترتيبات، ولم يتجاوزوا حدود الاتفاق الضمني بينهما.
ذلك ليس نهاية المطاف، فقد بقيت مناطق أخرى خارج الاتفاق، استمر الصراع عليها بين القطبين المتنافسين. فالبلدان التابعة للاستعمار الغربي التقليدي، والتي شهدت محاولات حثيثة للانعتاق من الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والبرتغاليين والإسبان، بقيت خارج القسمة. وأصبح التنافس عليها من قبل المعسكرين حادا وشرسا. ولما كان من المستحيل أن تتحقق مواجهة عسكرية مباشرة بين القطبين، دخل في القاموس السياسي والعسكري، تعبير الحروب بالوكالة. فكانت هناك حرب في كوريا دعم فيها الأميركيون الشطر الكوري الجنوبي، ودعم السوفيت الشطر الشمالي. وانتهت الأمور بتقسيم البلد إلى شطرين، شطر في الجنوب تبنى النهج الرأسمالي، وشطر في الشمال تبنى النهج الشيوعي، وما زالت الأوضاع على حالها حتى يومنا هذا رغم مرور قرابة ستة عقود على هذا الانشطار.
حدثت حرب كبرى، في فيتنام، بعد انسحاب الفرنسيين منها. كان الصراع المباشر فيها هو بين الأميركيين والفيتناميين في الشمال وقوات الفيتكونج الموالية لهم. كان الأميركيون يقاتلون بأنفسهم دفاعا عن إستراتيجية التوسع، وخوفا من تحقق ما أطلق عليه كيسنجر نظرية الدومينو، التي ترى أن سقوط دولة من دول جنوب شرق آسيا في أحضان الشيوعية سيؤدي إلى سقوط بقية الأنظمة في تلك المنطقة. وقد اعتبر قتال الفيتناميين في هذه الحرب، هو من نوع الحرب بالوكالة لصالح السوفيت. وفي ذات الاتجاه، يرى كثير من المحللين أن الحروب العربية الإسرائيلية، هي أيضا حروب بالوكالة بين الأميركيين والسوفيت.
مع سقوط جدار برلين، وانهيار الجمهوريات الاشتراكية في شرق أوروبا، وتفتت الاتحاد السوفيتي، تربعت الولايات المتحدة على عرش الهيمنة. وكان عليها أن تعزز موقعها، بالاستعانة مجددا بنظرية القوة، كما صاغها كيسنجر في السبعينات من القرن المنصرم. على الولايات المتحدة أن تؤكد دائما حضورها وقوتها العسكرية، وليس هناك ما يستدعي أن تكتشف أميركا وجود الخطر أو حتى تتوقعه لكي تندفع بقوتها العسكرية. تمثل القوة وتأكيدها أمام الجميع هو سبب كاف لشن الحرب. وقد واتتها فرصة حرب الخليج الثانية، لتؤكد هذا التمثل، بتأييد وإجماع دوليين. وكانت تلك هي نهاية النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية، وبداية نظام دولي جديد قائم على الأحادية القطبية، الذي اعتبر حالة استثنائية في العلاقات الدولية، ولم يعمر أكثر من عقدين، حيث بدت تطل من جديد رياح حرب باردة جديدة، بين ممثلين جدد.
ما مؤشرات هذه الحرب؟ وما علاقتها بانبثاق نظام دولي جديد؟ محاور ستكون موضوعا لمناقشتنا في الحديث القادم، بإذن الله تعالى.