محمد السعيد ادريس

أسئلة كثيرة تدور الآن وتفرض نفسها عمّا يحدث في ليبيا، نظراً إلى الغموض الذي يكتنف عملية إدارة السياسة والحكم في بلد يقدم نموذجاً له خصوصيته من بين نماذج أخرى للثورات العربية بات يعرف بrdquo;النموذج الليبيrdquo; الذي تحول بدوره إلى كابوس يحيط بأغلب ما يواجه الثورة السورية من تفاعلات وأحداث، فالنموذج الليبي للثورة اعتمد على التدخل العسكري الخارجي الأمريكي أولاً، والأطلسي ثانياً . نموذج كانت له إيجابياته، وكانت له سلبياته، لكن أهم ما فيه إلى جانب الدور العسكري الخارجي أنه تم بإرادة الدول العربية عندما صدر عن جامعة الدول العربية قرار بإحالة الملف الليبي إلى مجلس الأمن .

ماذا يحدث في ليبيا، ومن يحكمها الآن؟

سؤالان حاكمان في الأغلب لأي دعوة تطلق للدفع بقوات مراقبة عربية ودولية إلى سوريا، وأية دعوة لتسليح المعارضة السورية، ونظراً إلى غياب الإجابة، فإن ldquo;السيناريو الليبيrdquo; تحول إلى فزاعة لأية محاولة لإعادة تكراره في سوريا أو غيرها، لكن تعسر الإجابة عن هذين السؤالين زاد من غموض أحداث ليبيا، حتى كانت الصدمة الكبرى التي أحدثتها مقررات المؤتمر الشعبي الذي عقد بمشاركة قرابة ثلاثة آلاف شخص، تحدثت في مجملها عن ldquo;إقليم برقةrdquo;، معلنة توجهاً جديداً في إدارة الحكم في ليبيا، يضع نهاية لحكم الدولة المركزية، ويطلق سياسة الأقاليم أو اعتماد الدولة الاتحادية (الفيدرالية) بديلاً لحكم الدولة المركزية التي تأسست منذ أوائل منتصف القرن العشرين، بتوحيد الولايات الليبية الثلاث برقة وطرابلس وفزّان في إطار دولة موحدة تحت حكم العائلة الإدريسية في ليبيا .

فقد خرج مؤتمر برقة المذكور ببيان ختامي لسكان الإقليم لخص في نقاط ثمان أهم قرارات المؤتمرين الذين قرروا إضافة إلى المطالبة بالفيدرالية، تعيين أحمد الزبير السنوسي الإدريسي رئيساً للإقليم، واعتماد دستور الاستقلال الصادر في العام 1951 منطلقاً، مع رفض الإعلان الدستوري وتوزيع المؤتمر الوطني وقانون الانتخاب .

إعلان الإقليم، وتعيين السنوسي (أقدم سجين في العالم حسب تقديرات منظمة العفو الدولية)، عضو المجلس الوطني الانتقالي، فجّر صراعاً جديداً داخل ليبيا ليس فقط من جانب الليبيين خارج إقليم برقة، ولكن أيضاً داخل هذا الإقليم في مؤشر إلى نوع آخر جديد من الصراعات، ومفجراً لمزيد من عدم الاستقرار السياسي، ما سوف يؤدي بدوره إلى المزيد أيضاً من الغموض بعد أن أضحى الغموض هو السيد، وهو الحاكم لإدارة السياسة في ليبيا على النحو الذي غيّب الإجابة عن عشرات الأسئلة المهمة .

هناك من يشير إلى أن التوجه في برقة كان اضطرارياً نظراً إلى شعور أهالي مشرق ليبيا بالتهميش، وللممارسات السيئة والإقصائية التي تقوم بها ldquo;كتائب الزنتانrdquo; نسبة إلى إقليم الزنتان غربي ليبيا الذين لم تكن لهم الريادة ولا المبادرة في الثورة على نظام القذافي، على العكس من منطقة شرقي ليبيا وبنغازي على وجه الخصوص، ومعها البيضا ودرنة التي كان لها جميعاً السبق والريادة ودفع أثمان الثورة الليبية ضد نظام القذافي .

كل هذا يفاقم من تداعيات إطلاق مشروع الأقاليم في ليبيا وسط مخاوف التقسيم، ليتجدد السؤال الذي سبق أن فرض نفسه في العراق، سؤال: هل يكون التقسيم هو الحل؟ ما يعني أن التقسيم هو المحصلة النهائية والأهم لتجربة النموذج أو ldquo;السيناريو الليبيrdquo;، ووراء طرح هذا السؤال الآن يبقى ما يحدث في سوريا مؤرقاً ومخيفاً على ضوء كل هذا الذي يحدث في ليبيا من نوع أن الفيدرالية هي بداية التقسيم الذي سيفجّر المزيد من الصراعات، وخاصة الصراع على تقسيم الثروة بين هذه الأقاليم، ومن نوع أن طرابلس وبالذات غياب طرابلس عن المشهد هو ما سبب قصم ظهر ليبيا .

ويبقى سؤال، وماذا بعد؟

مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي، هدد باستخدام القوة لمنع تقسيم ليبيا، واتهم دولاً عربية، لم يسمّها، بتشجيع ما أسماه بrdquo;الفتنةrdquo;، وقال في مؤتمر صحفي إن ldquo;بعض الدول العربية تذكي وتغذي الفتنة التي نشأت في الشرق، حتى تهنأ في دولها، ولا ينتقل إليها طوفان الثورة، هذا التخوف هو الذي جعل هذه الدول الشقيقة، للأسف ترعى وتمول وتذكي هذه الفتنة التي نشأت في الشرقrdquo; .

لم يهتم عبدالجليل بالأسباب الحقيقية التي دفعت بأهالي شرقي ليبيا، إلى اعتماد الفيدرالية حلاً للأزمات ولم يجتهد، ومعه المجلس الانتقالي، بصياغة سياسات وطنية تؤمّن لليبيا خروجاً ناجحاً من أزماتها ويجعلها تهنأ بثورتها، خصوصاً إذا أخذنا تصريحات أحمد الزبير، أحد القياديين في دعوة فيدرالية برقة وابن عم الملك الليبي السابق إدريس السنوسي التي نفى فيها ldquo;وجود أي نوايا انفصاليةrdquo;، حيث رد على تصريحات مصطفى عبدالجليل بالقول إن ldquo;إدارة الإقليم تنفصل عن سياسة الدولة، ونظرتنا من خلال اتحاد النظام الفيدرالي إلى الاتحادي نظرة إدارية وليست انفصالية، والانفصال غير مقبول بالنسبة لناrdquo; .

تصريحات قد تبدو مطمئنة، لكن لا تنفي أن هناك دوافع خطرة لهذا التوجه من داخل ليبيا ومن خارجها، وأن هناك أخطاء في الإدارة، وهناك تدابير تستهدف التقسيم، وهذا ما يفرض التأمل في كل هذا الغياب العربي عن ليبيا، وهو غياب لا ينافسه في مساوئه إلا الغياب العربي عن كل ما يحدث في فلسطين من جرائم وحشية ldquo;إسرائيليةrdquo; وعمليات تهويد وتهجير وضمّ للأراضي واعتداءات مدبرة ضد المسجد الأقصى، غياب كان فاقعاً خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب هذا الأسبوع بالقاهرة .

غياب لا ينفي ولا يسقط المسؤولية العربية عن ليبيا، فدخول القوات الأجنبية إلى ليبيا كان في جوهره مسؤولية عربية .