عمّار علي حسن


قبل شهرين من أول انتخابات برلمانية عقب الثورة المصرية هاتفني القيادي الإسلامي أسامة رشدي من لندن وقال لي: أريد أن أرتب لقاء بين قادة العمل السلفي في مصر وبين مجموعة من السياسيين والمفكرين المحسوبين على التيار المدني، وحدد أسماء مصطفى حجازي وعمرو الشوبكي وضياء رشوان وأنا معهم. وقال لي إنهم حديثو عهد بالسياسة ومن واجب العارفين بها فكراً وممارسة أن ينصحوهم، فهم وافد جديد على العمل العام، ونريد أن نصنع منهم قيمة مضافة إليه بدلاً من أن يكونوا خصماً منه، وأكد أن لديهم رغبة عميقة في فهم الأمور السياسية المباشرة وفي جوانبها العليا التي هجروها من قبل، وكان كثير منهم يعتقدون أنها لن تكون في صلب اهتماماتهم أبداً.

واعتذر ضياء وذهبنا نحن الثلاثة إلى الإسكندرية وجلسنا مع عدد من الشيوخ على رأسهم محمد إسماعيل المقدم وياسر برهامي، وهما قطبان سلفيان كبيران، إلى جانب يسري حماد وكان معنا أسامة كامل وأسامة رشدي، وهما محسوبان على التيار الإسلامي العريض، وإن كانت بينهما وبين الفكر والفقه السلفي خلافات واختلافات في التأويل وليس في التنزيل.
وعلى العموم فقد كشف لي هذا اللقاء أن حوار الوجه للوجه بين المختلفين في الرأي والمسار السياسي كفيل بإزالة العديد من الأوهام المتبادلة التي يولدها الجفاء، وارتشاح الصور النمطية المغلوطة، التي جعلت السلفيين ينظرون إلى المدنيين وكأنهم في خصومة عميقة وجارحة مع الدين، وهذا ليس صحيحاً. وجعلت المدنيين يرون في السلفيين جماعة عصية على تحصيل الفهم والتطور والتجدد والتغيير.

ويومها قلت لهم إن مجتمعنا يعاني من خواء روحي وتردٍّ أخلاقي وإن جهد الدعاة والوعاظ لو اتجه إلى حض الناس على الإيمان واكتساب الفضائل والقيم الرفيعة فإنه يقدم لبلادنا ما هو أعظم بكثير من ذلك الذي بوسعه أن يجود به لو خاض غمار العمل السياسي، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد ارتباكاً شديداً، واستقطاباً أيديولوجيّاً حادّاً.

ولكن كانت لشيوخ السلفيين وجهة نظر تستحق الإمعان، ويمكن تفهمها، إذ رأوا أن حيازة مقاعد في البرلمان تحصنهم من عاديات الأيام. وقال برهامي وقتها: كانوا يأخذوننا من البيوت فجراً إلى الزنازين، ووجود تمثيل برلماني لنا يحمينا. وشرحنا لهم كيف أن السياسة هي المسؤولة عن كل أنماط وأشكال التفرق والتمذهب طيلة تاريخ الإسلام، وقلنا لهم إن الدين لا غنى عنه للمجتمع ولكن خلطه بالسلطة يشكل خطراً داهماً عليه، وأنكم إن مارستم السياسة ستتنازلون عن كثير مما تتمسكون به بوصفه quot;الشرعquot; الذي تسوقون الأدلة عليه طيلة الوقت. وحاولنا أن نذكرهم بأن الواقع يختلف كثيراً عما ورد في أضابير الكتب القديمة، وأن الفقه تأليف وتأويل استجابة لما كان يشغل الناس وقت إنتاجه، وما يشغلنا الآن يختلف عما أخذ بألباب السابقين وسيطر عليهم، ولابد لنا من تجديد فارق يمس العصب والجوهر، ولا يكتفي بالقشور، فنحن نعرف عن زماننا أكثر مما يعرف السابقون، وهم رجال ونحن رجال.

وسألونا عن آرائنا في ترشيح حازم صلاح أبو إسماعيل لرئاسة الجمهورية، فقلت لهم إن مشكلته وإن ظننتم أن له شعبية كبيرة، تتمثل في الصورة الذهنية الراسخة في عقول المصريين عمن يتبوأ هذا المنصب الكبير، فصور الملك فاروق على الجدران أو في مخيلة كبار السن الذين عاصروه، وكذلك صور الرؤساء محمد نجيب وعبدالناصر والسادات ومبارك، ربما حفرت شكلاً معيناً في الأذهان عن هيئة الرئيس، وحازم رجل له هيئة مختلفة، لم يتعود المواطن البسيط أن يكون صاحبها في موقع الرئيس. فالعامل في المصنع، والفلاح في الحقل، والموظف في المكتب، والتاجر في السوق، والسائر في الطريق، والأم عاملة وموظفة كانت أم مع أولادها في المنزل، تعودت أن ترى الرئيس في مصر هكذا، بلا لحية. وقد يختار أي من هؤلاء صاحب اللحية نائباً في البرلمان، أو وزيراً للأوقاف، ويرحبون به وزيراً، لا بأس، ويستمعون إليه وينصتون حين يحدثهم في شؤون دينهم، أما أن يكون عليهم رئيساً، فهذه جديدة، ويحتاج تبين مدى قبولها إلى تدقيق، قائم على استطلاع علمي، وليس على عاطفة وحماس.

وقلت لهم: إلى جانب الهيئة، وقد يرى بعضكم أنها مسألة شكلية بالنسبة للناس وجوهرية بالنسبة لكم، فإن حازم بينه وبين الدعوة والوعظ لا شيء من حاجز ولا قيد ولا مسافة تذكر فقد ألفها وتعود أنصاره عليه في هذا وألفوا جلوسه أمامهم على مقعد مرتفع عن الأرض قليلاً وقد ارتدى جلباباً فضفاضاً وفي يده مسبحة، ولكن علاقته بالسياسة تمر بحدود سميكة ومسافات شاسعة، ويحتاج إلى جهد جهيد كي يقنع الملايين من خارج الكتلة السلفية بجدارته بمنصب رئيس الجمهورية، ولاسيما في ظل هذه الفترة العصيبة التي تمر بها البلاد، وفي مواجهة الخراب الكبير الذي خلفه النظام السابق.

وسألونا عن عيوبهم في السياسة، فقلت لهم وقتها: أنا عندي عشرة عيوب في السياسة، أما أنتم فلديكم سبعة، وسردتها عليهم بكل صراحة، وكما عنَّ لذهني وقتها أن يستنبطها ويستخلصها من تحليل تصورات السلفيين وتصرفاتهم، فتحدثت عن قلة الخبرة، والتفكير الأحادي، وفهم العالم من جانب ضيق، وخلط الدين بالسلطة بطريقة سافرة، والاعتماد على الخطاب التعبوي الدعائي، والكيد للخصوم بلا ورع.

وسمعوا هذا بكل ترحاب وفي إقبال جلي، وبلا ميوعة تصم غيرهم، وانتهى اللقاء على أمل بتكراره، ولكن هذا لم يجر. وخرجت بانطباع عام هو أن السلفيين لديهم رغبة وطموح إلى الإلمام بأمور السياسة لكنها ستغيرهم، شاءوا أم أبوا، ونتمنى أن يكون تغييراً إلى الأحسن، نحو الدولة العصرية ذات الحكم المدني التي تقوم على القانون وتساوي بين المواطنين كافة في الحقوق والواجبات.