جاسم بودي
تستحق الحكومة التهنئة على ثباتها بوجه الإضرابات، لكن الفضل ليس لها وحدها بل إلى الرأي العام الشعبي الرافض للممارسات التي لا تعرف الحد الفاصل بين نيل المطالب وتعطيل مصالح البلاد والعباد.
الحكومة رفضت التفاوض تحت الأمر الواقع خصوصا أن الدولة لم تقصر سابقا في مواضيع الزيادات والكوادر والمزايا بل ربما حصدت انتقادات على ما اعتبره اقتصاديون وخبراء laquo;خطوات غير مدروسة ستنعكس سلبا على الموازنة والاجيال القادمةraquo;. لكن الناس أيضا عبّروا عن غضبهم من التطرف في التعبير عن الاحتجاج بل يروي نواب أنهم كلما زاروا ديوانية ووجهوا بكلام قاسٍ عن الغطاء الذي يعطونه للاضرابات ما دفع بكثير منهم إلى إعلان موقف علني مع وقف الإضرابات.
هنا، يجب أن تستفيد الحكومة من وجود رأي عام شعبي إيجابي أظهر تمسكا بالأصول وسحب الغطاء من المؤزمين أو لنقل من غلاة التطرف الذاهبين بعيدا في الضغط والتعطيل. وهو الامر الذي كنا دائما نشجع على التعاطي الايجابي معه، فوجود مساحة كبيرة من الديموقراطية وحرية التعبير ليس بالضرورة ان يحمل نفسا معارضا باستمرار للحكومة خصوصا إذا كنا أمام أمرين: أداء حكومي جيد وراغب في تطبيق القانون ودرس أي اقتراح يحقق العدالة الاجتماعية، واجراءات مبالغ فيها بدأت تضر ضررا بالغا بالامن الاجتماعي للبلاد والعباد.
نكتفي بهذا القدر عن الإضراب ونأتي إلى ما بعده، فالحكومة ليس عليها ان تنتشي بما حققته بل يفترض ان تفتح فورا ورشة عمل كبيرة لبحث قضايا الزيادات والحقوق والكوادر والرواتب والمزايا واقرار المنطقي والمستحق منها وتصحيح الاخطاء على قواعد علمية بحتة. إن دولة المؤسسات هي دولة الاستمرار وليس دولة العطايا والهبات، ولذلك فكل خطوة يجب أن تكون مرتبطة بمدى تأثيرها على المستقبل والاحتياطيات والموازنات وهذا الموضوع أشبع درسا ولا حاجة لتكرار الحديث عنه.
وما بعد بعد الاضراب هو الأهم. على الحكومة التي فازت بالنقاط في الايام الاخيرة ان تحضر ايضا للفوز بالضربة laquo;شبه القاضيةraquo; على ظواهر اخرى تفشت ويبدو ان احدا لم يستطع ايقافها. تستطيع ذلك لان الاستياء الشعبي من تعطيل المصالح والضرر بالامن الاجتماعي موجود ايضا بالنسبة الى انتهاكات القانون وlaquo;أخذ الحق باليدraquo;، فالكويتيون الذين جبلوا على مفهوم المواطنة والقانون ودولة المؤسسات لا يريدون ان يبقوا، مع الحكومة، متفرجين على ما يحصل والتسليم به وكأنه امر واقع.
ما بعد بعد الإضراب يجب ان يبدأ بتطبيق القانون بحزم على منتهكيه مهما كانت المناصب laquo;والواسطاتraquo;، وان يستكمل بمنع الآخرين من تطبيق القانون بأيديهم في حال اخذت المعالجات وقتا. لن نعيد التذكير بما حصل منذ أشهر وحتى اليوم لكننا يمكن ان نقول ان من سمح لمعتدٍ على حق شخصي او عام بالافلات من العقاب هو نفسه من سمح برد فعل مضاد لاخذ الحق باليد. طبعا لا هذا يجوز ولا ذاك يستقيم في دولة كانت تتباهى قبل عقود بانها اول من أرسى الدساتير والقوانين والانظمة والمؤسسات في المنطقة فاذا بتجربتها الحالية تشبه حالة مرضية تخشى دول اخرى ان تنتقل اليها ونتحدث تحديدا عن اخذ الحقوق بالايادي لا بيد القانون.
إن التراخي في تطبيق القانون لم يضرب دولة المؤسسات فحسب بل خلق أبطالا اصبحت طريقتهم الغوغائية نموذجا لآخرين، فان اردت الجاذبية الشعبية الضيقة في محيط طائفتك او منطقتك او قبيلتك فما عليك إلا أن تشتم وتسيء الى الآخرين وتحديدا إلى رموزهم، ثم يتأخر الرد الرسمي أو يتلكأ فيأتي الرد الطائفي أو القبلي وتقتحم المخافر والمقار العامة ويقول أحدهم: laquo;صورني أنا فلان ابن فلان سأدوس... وافعل...raquo;، وعندما تتخذ اجراءات بحق البادئ يصبح بطلا لدى أبناء طائفته أو قبيلته وربما ينتخب نائبا على قادة المظلومية ويصبح نموذجا للبطولة والوصول لدى ابناء الطوائف والقبائل الاخرى... وهكذا دواليك إلى أن وصلنا إلى زمن امتلأت فيه الكويت بالرموز والمقدسات وتقلصت فيها الانظمة والمؤسسات.
ما بعد بعد الإضراب هو تحديدا ما ذكرناه، أي أن تعيد الحكومة الهيبة الى القانون فتطبقه على الكبير قبل الصغير وتتخلى عن الشعارات الانشائية، ثم تطبقه على من تسول له نفسه أن يأخذ حقه بيده. لا تسمح بالإساءة والإهانة ولا تسامح في التعاطي مع رد الفعل خارج اطار المؤسسات، والكويتيون الذين خافوا على أمنهم الاجتماعي وانحازوا إلى المصلحة العامة في قضية الاضرابات خائفون اليوم على دولتهم ومؤسساتهم وأمنهم القومي والسياسي والاقتصادي ووحدة بلدهم وسينحازون إلى المصلحة العامة في قضية التجاوز على القانون... مرتين.
هل فهمت الحكومة رسالة الناس؟ نتمنى ذلك لأن البديل مستقبلا هو قيام حكومات على أنقاض... حكومة.
- آخر تحديث :
التعليقات