خالد الدخيل

بقدر ما أن جماعة laquo;الإخوان المسلمينraquo; في مصر أصبحت القوة السياسية الأولى بعد ثورة 25 يناير، إلا أنها أصبحت أيضاً الإشكالية السياسية الأولى. بسبب ذلك اشتبكت الجماعة مع كل القوى السياسية تقريباً، وآخر اشتباكاتها حالياً مع المجلس العسكري الذي يقال إن الجماعة تواطأت معه بعد الثورة. لكن لـ laquo;الإخوانraquo; إشكالية أخرى مع الخارج. في بداية الثورة كانت إشكاليتهم مع الأميركيين. ويبدو أنه تم تجاوزها بعد لقاءات عدة بين بعض قيادات laquo;الإخوانraquo; وبعض المسؤولين الأميركيين. لكن بقيت - كما يبدو - إشكالية laquo;الإخوانraquo; مع كثير من الدول العربية، وإن كانت لأسباب تختلف من دولة لأخرى. اللافت في هذا الإطار هو إشكالية علاقة laquo;الإخوانraquo; مع السعودية، وأن هذه الإشكالية يلفها الصمت، تمشياً مع طبيعة المرحلة، وبعد ما ما تميزت به من تحولات صاخبة طوال العقود الماضية. الدولة العربية الوحيدة التي يمكن القول إن علاقة laquo;الإخوانraquo; معها لا تزال متينة، ولم تتعرض لإشكالية هي قطر. وهذا موضوع آخر، ليس هنا مجال الحديث عنه. لا يتسع المجال لتناول هاتين الإشكاليتين بالتفصيل. لكن أحسبه من المفيد الإطلالة على تاريخ علاقة laquo;الإخوانraquo; مع السعودية، وما انتهت إليه في هذه اللحظة الفارقة.

عند تناول علاقة laquo;الإخوانraquo; مع السعودية لا بد أن تكون البداية من المحطات الثلاث التي مرت بها هذه العلاقة، وهي محطات باتت معروفة لكل من هو معني بالموضوع. المحطة الأولى كانت مع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، الأب المؤسس للدولة الحالية. كانت هذه محطة عابرة، لكن يبدو أنها مهدت السبيل لما بعدها. يقول الكاتب المصري المتخصص في شؤون laquo;الإخوانraquo;، حسام تمام رحمه الله، بأن حسن البنا أراد الهجرة إلى السعودية laquo;حين كان يبحث في بداية دعوته عن بيئة أكثر ملاءمة من مصرraquo;. وقد أشار في laquo;مذكرات الدعوة والداعيةraquo; - بحسب تمام - بأنه اتصل بمستشار الملك حافظ وهبه، وتدخل الأخير مع الحكومة المصرية لنقله للعمل مدرساً في الحجاز، لكن المحاولة فشلت. وبعد انتقال جماعة laquo;الإخوانraquo; من الإسماعيلية إلى القاهرة، وتراجع فكرة الهجرة، حافظ البنا على علاقة وثيقة مع المملكة، وكان يعتبرها عوناً للجماعة. في إحدى زياراته للحج يقال إن البنا طلب من الملك افتتاح فرع للجماعة في السعودية. وجاء رد الملك ديبلوماسياً في رفض المقترح، عندما قال: laquo;حنا في السعودية كلنا إخوانraquo;، في إشارة إلى أن الدولة قامت منذ بدايتها على أساس دعوة إسلامية. في كانون الأول (ديسمبر) 1948 حلت حكومة النقراشي باشا جماعة laquo;الإخوانraquo;. بعد ذلك اغتيل النقراشي كما يقال على يد شباب من الجماعة. وفي هذه الأجواء وجهت الحكومة السعودية - بحسب تمام - دعوة لحسن البنا للاستقرار في المملكة. إلا أنه اغتيل بعد شهرين من حل الجماعة.

المحطة الثانية بدأت مع الصراع السعودي المصري أيام الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر، في مرحلة ما يعرف بالحرب العربية الباردة خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. خلال الفترة نفسها وصل الصدام بين جماعة laquo;الإخوانraquo; وعبدالناصر إلى ذروته عام 1954، في حادثة المنشية المعروفة. بعد هذه الحادثة بدأت ما تعرف بهجرة laquo;الإخوانraquo; المصريين إلى السعودية، وبعض دول الخليج العربي. إذ وجد عدد من قيادات laquo;الإخوانraquo; في السعودية مكاناً يحتمون به. عندما تسلم أنور السادات الحكم خلفاً لعبدالناصر عام 1970 بدأ مد الجسور مع التيار الإسلامي، وبخاصة laquo;الإخوانraquo;. ورافق ذلك تحسن في علاقات مصر مع السعودية. يذكر حسام تمام أنه مع منتصف السبعينات سافر عدد كبير من قيادات laquo;الإخوانraquo; إلى المملكة للاستقرار أو العمل. من بينهم توفيق الشاوي، وكمال الهلباوي، وعلي جريشة، ومحمد الغزالي، والسيد سابق. ومن بين laquo;الإخوانraquo; الذين ذاع صيتهم في السعودية بشكل لافت كان مناع القطان الذي حصل على الجنسية السعودية، ومحمد الغزالي، ومحمد قطب. كان مجال عمل laquo;الإخوانraquo; في المملكة يتركز في الدعوة وفي التعليم. إذ شارك عدد من مشايخ laquo;الإخوانraquo; في تطوير التعليم في المملكة، بل كان لهم دور بارز في صياغة سياسة التعليم العام.

أما المرحلة الثالثة فكانت مرحلة انفصال وفصام بين السعودية وraquo;الإخوانraquo;. كان ذلك عام 1990 عندما احتلت القوات العراقية الكويت، واضطرت المملكة للاستعانة بالقوات الأميركية لإخراج صدام من الكويت. كانت جماعة laquo;الإخوانraquo; - بحسب بياناتها الرسمية - ضد احتلال الكويت. لكنها ضد الاستعانة بالقوات الأجنبية لإخراج القوات العراقية. مهما يكن انتهى الأمر بـ laquo;الإخوانraquo; أنهم أصبحوا إلى جانب صدام، ليس لأنهم يتفقون معه سياسياً وأيديولوجياً، وإنما رفضاً للتدخل الأجنبي، كما يقولون. ومثل هذا الموقف الملتبس، الذي يجمع بين الموقف ونقيضه، هو من أبرز سمات الثقافة السياسية العربية في العصر الحديث. وهو انعكاس أمين لحالة الضعف العربي سياسياً ومؤسساتياً، وأيديولوجياً أيضاً. لا أحد يملك أن يقدم لك مخرجاً من المأزق. كل ما يقدمه لك إما المدح، أو الشجب laquo;الأخلاقيraquo;. وبالتالي عليك كضحية الخضوع لوطأة الظرف السياسي إلى أن يكتب الله لك مخرجاً، وإلا فعليك تقع المسؤولية الأخلاقية، وليس على الجلاد. يتكرر هذا الموقف حالياً في الثورة السورية، إذ يحرم البعض على الشعب السوري حماية نفسه من وحشية النظام، إما بالتسلح أو توفير الممرات الآمنة له، أو بفرض مناطق حظر جوي. لو أن هذا الاعتراض يقدم بديلاً لما اعترض عليه، كأن يوفر تدخلاً عربياً لحماية الشعب، لاكتسب حصافته السياسية، وصفته الأخلاقية، ولأصبح اعتراضاً مشروعاً يفرض نفسه على الجميع. لكنه في المحصلة النهائية اعتراض للاعتراض فقط، وليس لحماية الشعب. وهنا كان المأزق الذي دخلت فيه علاقة laquo;الإخوانraquo; بالسعودية. لا يمكن تجاهل المساهمة السعودية في المأزق الذي خلقه الاحتلال العراقي للكويت، لكن هذا لم يكن حينها مبرراً لمزايدة سياسية من منطلق أخلاقي يغطي مصلحة laquo;الإخوانraquo; السياسية باعتبارات دينية، مع تجاهل كامل لإلحاح اللحظة حينها، ولمصلحة السعودية والكويت. شعرت عندها السعودية بأن laquo;الإخوانraquo; تنكروا للتاريخ الطويل الذي جمعها معهم، وأنهم تخلوا عنها عندما حانت لحظتها الحرجة.

الآن، ومع ثورات الربيع العربي يمكن القول إن علاقة السعودية مع laquo;الإخوانraquo; قد دخلت مرحلتها الرابعة. لا تزال هذه المرحلة في بدايتها، ويلفها صمت طرفي العلاقة. وهي لذلك مرحلة غامضة، ومليئة بالتساؤلات والتخمينات، وليس بالكثير من غير ذلك. أهم ما تتميز به هذه المرحلة هو ما حصل لـ laquo;الإخوانraquo;، وليس للسعودية. كانت علاقة laquo;الإخوانraquo; مع السعودية في كل المراحل الثلاث السابقة هي علاقة تنظيم خارج الحكم في بلده، مع دولة يشترك معها في التوجه، أو المنطلقات الإسلامية لكل منهما. ثم جاءت المرحلة الثالثة وكشفت مدى الاختلافات السياسية بينهما. وفي كل الأحوال، كان لـ laquo;الإخوانraquo; طوال المراحل الثلاث تنظيم في غالب الأحيان مطارد، ويتعرض للقمع والتنكيل، ولم يكن معترفاً بشرعية معارضته، خصوصاً في عهدي عبدالناصر وحسني مبارك. الآن، وبعد ثورة 25 يناير، أصبح laquo;الإخوانraquo; أقوى تنظيم سياسي في مصر، وفي قلب الحكم منها: يملكون الغالبية في البرلمان بمجلسيه، الشعب والشورى، ومرشحون لتولي رئاسة الحكومة فيها. إلى جانب ذلك كان laquo;الإخوانraquo; يطمحون إلى تولي رئاسة الجمهورية، لكن يبدو أن توازنات المرحلة الانتقالية بعد الثورة لن تمكنهم من ذلك. مهما يكن من الواضح أن المشهد السياسي في مصر قد تغير، ومعه تغير موقع laquo;الإخوانraquo;، وتغير دورهم. ومن الواضح أيضاً أن ما حصل لــ laquo;الإخوانraquo; ولمصر من تغيرات تتضافر مع تغيرات حصلت في تونس وليبيا واليمن، وينتظر أن تحصل في سورية. وكل هذه ستعيد صياغة المشهد الإقليمي في العالم العربي، بما سيؤدي إلى ظهور نظام عربي يختلف عن النظام الذي تهاوى مع ثورات الربيع العربي. السؤال: ما الذي تغير تبعاً لما حصل في الموقف السياسي لـ laquo;إخوانraquo; مصر؟ وكيف سيؤثر ذلك في علاقتهم مع السعودية تحديداً؟ لم تعد علاقة laquo;الإخوانraquo; مع السعودية، أو غيرها، علاقة تنظيم بدولة، وإنما علاقة دولة بدولة. وهذا تحول كبير يعكس حجم التغيرات التي حصلت وتحصل للعالم العربي. وعلاقة السعودية مع مصر لها تاريخ طويل، يمتد لما قبل laquo;الإخوانraquo;، وهو ما يعكس أهمية كل منهما للآخر، ويفرض نفسه كإطار للحديث عن هذه العلاقة، كما كانت في الماضي، وكما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.