عبدالله بشارة

في هذه الفوضى العارمة التي تتسيد الوضع السياسي في الكويت، بتصريحات من مجلس الأمة عبر مساعي الائتلاف البرلماني المسيطر والمتمتع بالوجاهة وبالبهرجة الاعلامية، تشتد الأنظار نحو أداء سمو رئيس الوزراء الذي يقود حكومة الكويت وسط أمواج الفوضوية، باحثا عن مسار يأخذ الوطن نحو الاستقرار، سليما من الهجمات التي يستعد نواب الأغلبية شنها ضد القواعد الآمنة التي تشكل ثوابت هذا الوطن والتي استخلصها صناع الكويت المؤسسون من تجاربهم مع دول الجوار وعبر اتصالاتهم مع محيط الهند وأفريقيا، وشيدوا وطنهم بالتسامح والغيرة والاعتدال.
يأتي النواب المنتشون بالعدد الزاحف ليدخلوا في دوامة التعديل على المادة الثانية متجاهلين كيان الكويت التاريخي المستقر والمحتضن للاعتدال والمتميز بحسن التصرف وعقلانية المسلك ومتانة الوئام الوطني.
هذه المفردات البسيطة التي يريدون اضافتها على المادة الثانية، تأخذ الكويت من الدولة المدنية الهادئة الى مكان آخر يثير الجدل ويفتح أبواب الصراعات والمواجهات ويفجر خلافات قد تدفع بالكيان وأهله الى الهلاك السياسي.
في هذا المسار، لا بد ان يدرك الأعضاء المتحمسون بأن الرأي العام الكويتي المتشرب بالاعتدال، ضدهم، وأن المجتمع ومزاجه التاريخي يعارضهم، وأنهم بما يتعصبون له ويقترحونه، يأخذون الكويت الى الضياع، فعليهم ان يتيقنوا قبل مقترحاتهم بأن حياد الدستور صون للكويت، وحفاظ على سلامتها، وأن العبث بمقوماته ليس تسلية عيال، وانما وصفة للتشرذم.وحياة البرلمانيين دائما ما تكون انعكاسا للرأي العام يتحسسون توجهاته ويطاردون الحس الشعبي بحثا وتعرفا لكي تكون مواقفهم ترجمة للهم الوطني الجماعي.
وهنا وفي هذه السكة التي تسير فيها الأغلبية، الوضع مخالفا لما يتمناه هؤلاء النواب، أهل الكويت راضون بما حولهم وبما توارثوه وبما عاشوا بواسطته في انسجام عام.
وهنا أيضا يفشل الحس البرلماني الغالب في التناغم مع مشاعر عامة الناس، وخطورة الفشل تعني ضعفاً في الادراك العام وفي النضج، وهذا العجز في التعرف على مزاج الرأي العام يمنح حكومة الشيخ جابر المبارك فسحة واسعة لرفض مثل هذا التعديل الذي يزعج السلم الاجتماعي والانسجام الوطني، فمفردات التعديل ليست تمنيات وزركشة لفظية بسيطة، وانما هي خروج عن الخريطة الاجتماعية المتوارثة وتمرد على معانيها.
وتمنياتي للشيخ جابر المبارك ان يتصدى لما تريده هذه الأغلبية التي تخطط لمقترحاتها بمعزل عن حقائق الكويت وبتجاهل واضح للثقل الشعبي، هنا لا بد ان يكون الخطاب السياسي الرسمي واضحا ومباشرا نحو الهدف مع ضرورات الابتعاد عن النهج المواعظي والدعوي، ونكرر دائما خطورة ارتهان موقف الحكومة الرسمي لمتطلبات الأغلبية، لأن الارتهان لمطالب هذه الأغلبية له اسقاطات تضر بالحكومة وبأهلها وبالكويت، وتزيد من خشونة الأغلبية التي تشتط في أحلامها وطلباتها، وتعزز من قدرة المجموعة المتسيدة على التحريض ضد الوسطية العقلانية، وتوسع من شراهتها في استحواذ السلطة وتشل حقوق الحكومة المستسلمة.
لقد شاهدنا، في الأسبوع الماضي واقعتين فيهما مؤشرات على حكم الاذعان للضغوط ولإملاءات العضلات السياسية، فقرار وقف التسجيل عن خطب المساجد وفتحها طوال الوقت قرار ليس في صالح الكويت فلا تستفيد البلد من خطب يتسللها القذف والشتيمة لمن نختلف معهم في المذهب وفي الدين، وليس من صالح الكويت الاستخفاف بالاديان والطوائف الأخرى، وأنا شخصيا من المتابعين لخطب الجمعة، وكتبت مقالات عن فقدان الرقابة عليها من واقع المتابعة والحضور المتنقل الى مساجد في مختلف المواقع.
والواقعة الأخرى المزعجة هي التعامل بجفاء مع العادات ومظاهر الدفن في مقابر الجعفرية، فلكل ملة معتقدات ومتوارثات ولا شأن بالنواب ولا الوزراء بها، طالما أنها في انسجام مع المسار العام للمجتمع.
هناك شيء أسميه حقوق الوطن في تأكيد الاطمئنان وفي حمايته من العبث، وتتحقق سلامة الوطن بحكم المنطق وليس بالرعونة والاندفاع، وهنا نقول بأن الاضطراب في الأمن الوطني يأتي من عدم التقدير الصحيح لمزاج الناس ومن افتقار النواب للوقوف على المهضوم والمقبول من قبل المجتمع، ولذلك نقع في دوامة الاستجوابات، فلم يكن السيد حسين القلاف قريبا من الناس في استجوابه لوزير الاعلام، الشيخ محمد عبدالله المبارك، ولذا جاء المشهد باهتا وبائسا، ولا يختلف مشهد النائب القلاف عن مشهد النائب صالح عاشور في استجوابه لرئيس الوزراء، الذي انتهى بالخيبة التعسة.
عندما يبتعد اللمس النيابي عن مشاعر الناس تأتي المفاجآت في التخبط وفي السباق نحو المزعجات في تخويف الوزراء والضغط عليهم وتهديدهم بالمنصة التي يلوح بها النواب مثل ثوار مقصلة الباستيل في فرنسا.
كنت دائما أقول بأن ميزة النائب مسلم البراك هي قدرته في تلمس الحس الشعبي، وأنه يملك ستالايت أو رادار يأخذه الى تمنيات الناس، ونجح بأصوات غير مسبوقة لأنه يشخص مشاغل المجتمع على الرغم من صراخه وشططه، فهو ليس ظاهرة المهاتما غاندي، وانما واحد تعرف على ضيق الناس من الايداعات والتحويلات ومن لوثة البعض بالمال، وشخّص اصرار الناس على معرفة الحقائق، فتطوع البراك محاميا لهم متسائلا وملحا ومصرا وملاحقا.
وقد نختلف في خروجه عن الحشمة البرلمانية عند التعاطي مع هذه الحالة، لكن ذلك لا يبخس من حقيقة تكريس جهده وطاقاته ولسانه لهذه القضية الموجعة.
نحن نقول بأن الأغلبية التي تتصور بأنها تحكم وتتحكم وتقود لن تنجح فيما تريد اذا ما تحقق التفاهم والانسجام بين سلوك الحكومة وبين ما يريده المجتمع وما يطالب به الناس عبر الحوارات والتواصل والتشاور، ويتولد هذا التواصل بالانجاز والبناء الملموس والمستمر المترجم لما يريده الناس ومزاجهم مع ضرورة التخلي عن السلبية والصمت، مع التصدي القوي للتيارات التي تتحرك داخل المجتمع، ويتذكر أبناء هذا المجتمع بأن استقالة الحكومة السابقة جاءت كحصيلة لحالة الفتور التي تعاملت فيها مع أزمة الايداعات والتحويلات، وكانت المصلحة العامة تتطلب السرعة في تشكيل لجان تحقيق لتكسب اطمئنان المجتمع، لكن ذلك تاريخ مضى..
نحن الآن مع عهد جديد في تشكيل مختلف، تعلم من دروس الحياة ووقف على عبرها، وأهم ما فيها ان يكون السلوك مستلهما أمنيات الرأي العام ومراعاة حقوقه في الشفافية والوضوح والصراحة، واذا سارت حكومة الشيخ جابر المبارك وفق هذا المفهوم، فان فوران الأغلبية في البرلمان سيتلاشى وينحسر بلا تأثير.
لكن ذلك يكتمل ويتحصن بالانجاز وبالقدرة على تنفيذ القرارات واتخاذ القرار الصعب، مع تمنيات هذا المجتمع بأن تدشن الحكومة نهج الحديث المباشر مع المواطنين ولا تترك ساحة الحوار للنواب وأن تدافع بشراسة عن ملفاتها وتعقد مؤتمرات صحافية متلاحقة تحكي فيها بالحقائق والأرقام.
لا بد من وجود سيطرة تامة على مسار الوزراء والوزارات وفرض الانضباط على الجميع، فقط عندها تتلاشى هيبة المعارضة وينحسر بريقها، وتحافظ الكويت على مسارها التاريخي الذي رسمه المؤسسون..



رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات