محمد السعيد إدريس

إذا كان كل مصريrlm;,rlm; ذي بصيرةrlm;,rlm; علي يقين وقناعة بأن مبدأ استقلال القضاء ونزاهته هو من أهم ركائز الحكم الديمقراطي وترسيخ قيم الحرية والعدالة التي لن يستقيم نظام الحكم إلا بهماrlm;,rlm; فإن كل مصريrlm;.

ذي بصيرة أيضا, أضحي علي يقين وقناعة بأن القضاء, بالحكم الصادر علي حسني مبارك ونجليه, وحبيب العادلي ومساعديه ومعهم جميعا حسين سالم, قد ارتكب جريمة بحق العدالة أولا وبحق الثورة والثوار ثانيا, ثم, وهذا هو الأهم, بحق مصر والحلم الذي ظل يداعب كل المصريين, بأن يعيشوا أعزاء كرماء في وطن لا تحتكر فيه سلطة ولا ثروة ولا يسوده طغيان أو فساد بل حرية وعدالة وكرامة وسيادة للوطن والمواطنين.
المصريون طعنوا بهذا الحكم في حلمهم الذي ولدته ثورتهم يوم 25 يناير 2011, وكل ما شعروا به أن الحكم الذي أعطي البراءة للقتلة وأعوانهم قد حكم علنا بإعدام الثورة والثوار, ويوم يصدر حكم محكمة النقض بتبرئة مبارك والعادلي بعد تبرئة نجلي مبارك ومساعدي العادلي, حسب ما هو متوقع, سيكون قد صدر حكم, في الوقت ذاته بتجريم الثورة والثوار, وبدلا من ملاحقة النظام ورجاله سنجد أن الملاحقة والتجريم ستكون للثورة والثوار.
هذه المشاعر هي التي تسيطر علي المصريين الآن, هم يدركون أن مؤسسة العدالة قد حادت كثيرا عن العدل, والعدل الذي يعرفه الجميع أن هناك قصاصا لابد أن يحدث, وأن هناك قتلا عمدا حدث أيام الثورة علي أيدي قوات النظام أمام مرأي العالم كله. هذه المشاعر هي التي دفعت وتدفع المصريين إلي رفض هذا الحكم وإلي النزول مجددا إلي الميادين ليس فقط من أجل رفض هذا الحكم, ولكن من أجل رفض مجمل ما يحدث من تسويف وإجهاض للثورة, سواء كانت المحاكمات غير العادلة التي أخذت تبرئ قتلة الثوار تباعا منذ عدة أشهر واختتمت بحكم تبرئة رأس النظام ورجاله, أم كانت التسويف في وضع دستور يحمي الثورة ويقيم نظامها.
لم تكن مؤسسة القضاء غائبة بقضاتها العظام عن الثورة وأحداثها, ولم تكن بعيدة, طيلة السنوات الماضية, عن جرائم فساد واستبداد النظام, لكنها لم تلاحق هذا الفساد والاستبداد, بل كان بعض المنتسبين لها, (نقول البعض فقط) شركاء مع النظام وشهودا مدعمين لفساده وطغيانه, ولعل في تزوير انتخابات مجلس الشعب عام 2010 بالشكل الفاضح الذي يعلمه الجميع, وما سبقها من انتخابات زورت إرادة المواطنين, مجرد مثال علي هذا التواطؤ مع النظام المخلوع, واليوم يأتي حكم البراءة لرأس النظام ليكشف بعض مكونات الأزمة السياسية المتفجرة الآن في مصر ودور القضاء المصري فيها.
لم تكن مؤسسة القضاء غائبة عن الجرائم البشعة التي ارتكبتها قوات النظام ضد المتظاهرين. ولم تكن مؤسسة القضاء غائبة عن دعوة محاكمة المجرمين بـ محكمة ثورة لضمان وتأمين القصاص العادل المطلوب, ولم تكن مؤسسة القضاء غائبة عن انحياز أغلبية المصريين لسلوك طريق القضاء العادي وليس القضاء الثوري. لم يشأ المصريون أن ينصبوا المشانق في الميادين للقتلة كما حدث في دول كثيرة عايشت ثورات مثل ثورتنا ومنها دول أوروبية, لكنهم انحازوا لخيار القضاء لأسباب ثلاثة; أولها, أن المصريين, كشعب مؤمن عن جدارة, لا يقبل الظلم لغيره كما لا يقبله لنفسه, لذلك فوض القضاء للقيام بمهمة تحقيق العدل التزاما بمبدأ القصاص الذي شرعه الله سبحانه وتعالي. وثانيها, القبول الطوعي للمصريين بتفويض الجيش وقيادته (المجلس الأعلي للقوات المسلحة) للقيام بمهمة قيادة الثورة وتفويضه بالأمر كله, ثقة منه أن الجيش ببيانه الشهير يوم 2 فبراير 2011 وانحيازه للثورة أصبح طرفا وشريكا في الثورة وليس طرفا محايدا بين الشعب والنظام البائد, وأنه, من منطلق هذا التفويض, سيكون جديرا بقيادة الثورة والحفاظ علي الأمانة علي قاعدة تحقيق مبادئ وأهداف الثورة. وثالثها, ثقة الشعب المطلقة في القضاء وعدله ونزاهته, وإيمانه المطلق بأن القضاء سيضع نصب عينيه مهمة تحقيق القصاص العادل.
المصريون يشعرون الآن بخيبة الأمل في رهاناتهم, ويتحسر بعضهم علي التردد في فرض خيار المحاكم الثورية, وهم الآن يملأون الميادين ويجددون الثورة ودعوة إسقاط النظام الذي لم يسقط, الرفض الشعبي المطلق للحكم الذي أصدرته محكمة مبارك ليس اعتراضا علي مبدأ استقلال القضاء بل دفاعا عنه, فما يدركه المصريون الآن, من خلال هذا الحكم, هو أن القضاء لم يحافظ علي استقلاله الذي يريده, ليس لأنه انحاز للنظام ولكن لأنه أخذ طريق ما يعرف بـ القضاء السلبي وهو القضاء الذي يغمض عينيه عن كل المشاهد التي رآها ولا يكلف نفسه مشقة البحث عن الأدلة التي تحفظ الحقيقة وتحقق العدل, ويكتفي بأن يحكم بما لديه أو ما هو متاح لديه من أدلة غير كافية وليست بوزن ما يعرفه وشاهده بعينيه كما شاهده العالم. ما يريده الشعب اليوم هو القصاص والعدل, وإعادة المحاكمة, لكن عبر القضاء الإيجابي أي القضاء الذي يرفض الحكم بأدلة ناقصة أو مشوهة أو مزورة, بل يسعي إلي استرداد كل الأدلة, وأن يأمر بمحاكمة كل من أخفي أو أفسد أو زور أي دليل وفي مقدمتهم كل المسئولين الكبار في رئاسة الجمهورية, والحكومة وخاصة وزارة الداخلية, وإذا لم يستطع توفير الأدلة اللازمة, فلا يتورط في حكم يخل بالعدالة, كما تورطت محكمة مبارك, بل يوصي بأن تحال المحاكمة إلي محكمة ثورية أو ما شابهها أملا وطمعا في العدل الذي شرعه سبحانه وتعالي.
مصر الآن في أزمة, ولن تقبل أبدا بإجهاض الثورة أو الانقضاض عليها أو بعودة الشرعية إلي النظام السابق ورموزه, والطريق إلي الحل يبدأ بمبادرات جريئة أولها إصدار قرار, من الجهة المعنية بذلك, بإعادة محاكمة مبارك ورموز نظامه, والمضي قدما وبجدية في تنفيذ أحكام قانون العزل السياسي, وثانيها, الإقدام علي خطوة جريئة من نوع تشكيل مجلس رئاسي يحكم مصر خلال السنوات الأربع المقبلة باعتبارها مرحلة انتقالية, مجلس يمكن أن يضم مرشحي الرئاسة الخمسة الذين حازوا أعلي نسبة من الأصوات أو من يرشحونهم شرط أن يكون هناك تمثيل لكل التيارات السياسية, وثالثها, أن يبادر المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإعطاء صبغة الإلزام لـ وثيقة العهد التي وقعت عليها أغلب القوي السياسية, ودعوة رئاسة السلطتين التشريعية (مجلسي الشعب والشوري) والقضائية للتوقيع عليها وكذلك قادة الأحزاب ومن يقبل من مرشحي الرئاسة, حتي تكون هناك مرجعية سياسية للحكم لحين الانتهاء من وضع الدستور الدائم, مرجعية تستعيد الثقة في أن الثورة مستمرة.