علي محمد فخرو

من بين كل عشر زيارات لتقديم العزاء في وفاة أحدهم سيجيبك ستة من أقارب المتوفَّى بأن سبب الوفاة كان مرض السَّرطان بكل أنواعه وتجلياته. لايقتصر هذا الجواب على المسنَّين وإنما يشمل الشباب، بل وحتى الأطفال. كما لا يقتصر على بلد عربي خليجي دون الآخر، فنحن أمام وباء سرطاني يعمُّ الجميع.
ظاهرة الازدياد الكبير في أعداد المصابين بشتَّى أنواع الأورام الخبيثة وغير الخبيثة في جميع بلدان مجلس التعاون الخليجي وفي العراق أشير إليها في كتابات خجولة منذ بداية التٍّسعينات من القرن الماضي، أي مباشرة بعد الحشد الهائل للأسلحة ولأساطيل الجو والبحر في أرض ومياه وأجواء الخليج كردٍ فعل لجنون اجتياح جيوش العراق الشقيق لدولة الكويت الشقيقة، ثمً ما تبع ذلك من استمرار الوجود العسكري الأميركي المكثَّف في منطقة الخليج لحصار العراق ومعاقبته ثمَّ غزوه واحتلاله.
بعض من تلك الكتابات، بما فيها الصحف الامريكية والأوروبية، عزا جزءاً من تلك الظاهرة إلى استعمال الجيوش الامريكية لليورانيوم المخصَّب وللفوسفور الأبيض في أماكن وأوقات مختلفة طيلة العشرين سنة الماضية وللتلوث البيئي الهائل من جرَّاء حرق العشرات من آبار البترول في الكويت. ولأن العوامل المسبًّبة للسرطان مركَّبة وبالغة التداخل فيما بين بعضها البعض فانه من شبه المؤكد وجود عوامل أخرى غير التي ذكرنا، من مثل التلوَث الصناعي والغذائي والعادات الغذائية والسلوكية الخاطئة والضُّغوط النفسية المريعة التي رافقت تعقَّد الحياة المجتمعية في هذه المنطقة وغيرها.
أمام هذا المشهد الصحٍّي ـ البيئي ـ الاجتماعي المعقَّد، وبعد مرور عشرين سنة، ومع استمرار التواجد العسكري الأجنبي في كل بلدان الخليج العربية، من أقصى الشًّمال إلى أقصى الجنوب، تواجد الأسلحة والمناورات ومخازن الذخائر السريَّة غير المعلن عن أنواعها. أمام هذا المشهد ينتظر الإنسان أن يجد محاولة بحثية مشتركة، متعدٍّدة الأطراف والمستويات والتخصَّصات، تقوم بها مجتمعة وعبر العديد من السنوات مؤسسات الصحة والبحوث والبيئة وكليات الطب في جميع بلدان مجلس التعاون والعراق وذلك من أجل رسم خارطة بيئية ـ صحية ـ مجتمعية لأسباب ومسار ظاهرة وباء السرطان من جهة ولاقتراح ما يمكن فعله من قبل الدول مجتمعة من جهة أخرى.
لقد حاولت عن طريق شبكة عن طريق شبكة الانترنت التفتيش عن مثل هكذا دراسة، على الأقل على مستوى مجلس التعاون، فلم أجدها . وهذا شيئ محيرٍّ ويطرح الأسئلة.
هل السبب هو عدم توفُّر الأموال اللازمة لإجراء مثل هذه البحوث الكبيرة المكلفة؟ الجواب بالنفي، فدخل دول مجلس التعاون وحدها من عائدات الثروة البترولية والغازيَّة السنوية يقدَّر بألف مليار دولار، وما يضيع من ثروات العراق بسبب الفساد وغياب الشفافية وانتشار اللصوصية والانغماس في الصٍّراعات الطائفية يقدَّر بعشرات المليارات. ثم إن للأزمات المالية العولمية نصيب الأسد من ضياع عبثي للثروة. وكمثل موجع للقلب فان الصحف تحدثت مؤخراً عن جهة خليجية اشترت منذ بضع سنوات أسهم إحدى الشركات في أوروبا بحوالي سبعمائة وخمسين مليون يورو، وكان سعر السَّهم الواحد حوالي سبع يوروات. اليوم وبسبب الأزمة اليونانية الاقتصادية الحادة هبط سعر السَهم إلى أقل من ربع اليورو الواحد وأصبح ماكان يساوي سبعمائـــــــة وخمسين مليون يورو يقدًّر بتسع وعشرين مليون يورو. وحتى لانظلم تلك الجهة فانه مثل من مئات الأمثلة الأخرى، في كل دول مجلس التعاون، على المستوى العام والخاص، سنة بعد سنة، دون استيعاب للدروس ودون فكاك من ظاهرة الابتذال في التعامل مع ثروة مؤقَّتة ناضبة.
هل السًّبب هو طغيان السياسة والمال على كل ما عداهما في منطقة الخليج العربية بكاملها؟ أغلب الظن أن هذا جزء مهم من الجواب. من لديه الآن وقت لقضايا الإنسان العربي الصحية والتربوية التعليمية والثقافية التي تسمو بمستواه الجسدي والعقلي والروحي؟ هذه قضايا يجب أن تنتظر حتى تنتهي جهات المسؤولية والقيادة من المعركة الطائفية العبثية بين مذهبي السنًّة والشيعة محلياً وإقليمياً، من الصٍّراع العربي ـ الإيراني حول كل شيئ وحول لاشيئ، من حلٍ مشكلة الإرهاب الحقيقي والمتوهَّم، من صرف الوقت والأموال والجهود لمنع حراكات الربيع العربي من الوصول إلى شواطئ الخليج العربي وبالتالي الانشغال المبهر بأوضاع ليبيا وسورية والعراق واليمن ولبنان والسودان وأوضاع ما بعد الثورات في تونس ومصر، من إنقاذ المؤسسات الاقتصادية والتجارية والمالية الغربية المتعثًّرة من الكساد والإفلاس، وفي الداخل من الاستمرار في جنون المضاربات العقارية والمالية وفي بناء المدن لاجتذاب الأغراب والمغامرين وغاسلي الأموال على حساب الهوية العربية والإسلامية.
الواقع أن المجلَّدات لا تكفي لقائمة الجنون والعبث والتجاوزات، فهل لنا أن نطلب من الجهات المعنية في دول مجلس التعاون والعراق، إن سمح لها وكانت قادرة، أن تقوم بمشروع بحثي وعلاجي لدراسة وباء مرض السرطان الذي أشرنا إليه، فلعلًّنا نقلًّل من عدد الجنازات التي يبكي أصحابها على أطفال أبرياء وشباب في مقتبل العمر ليس لهم دخل في ألعاب الكبار الذين نسوا اللُه فأنساهم أنفسهم ثم نسوا شعوبهم.