يوسف نور عوض

خلال مرحلة الملك فاروق في مصر كان الشعار المرفوع هو وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، وعلى الرغم من أن مصر كانت إحدى دولتي الحكم مع بريطانيا فإن السودانيين لم ينظروا إليها أبدا كدولة مستعمرة، بل نمت الحركة الوطنية السودانية وترعرعت في مصر، ذلك أن العلاقات بين مصر والسودان كانت في نظر الكثيرين علاقات تاريخية لا تتأثر بمثل هذه الظروف العارضة، ويكفي أن يذهب الإنسان إلى منطقة مروي في شمال السودان ليشاهد عشرات الأهرامات التي يفوق عددها ما هو موجود في مصر الآن، كما يشاهد أن 'الخط المروي' لا يختلف في بنيته عن 'الخط الفرعوني'، وكان التعاون العسكري والسياسي بين مصر والسودان قائما منذ أقدم العصور، ولا شك أن الخصائص التي تميز بها شعب النوبة كانت تمازج بين الشخصية السودانية والشخصية المصرية،
وعلى الرغم من ذلك فقد كانت هناك اختلافات في البنية الجغرافية للبلدين، إذ مع اعتمادهما على مياه النيل فإن السودان كان ومازال يتميز بنسبة عالية من هطل الأمطار تجعله في وضع أفضل بكثير من مصر التي تعتمد اعتمادا أساسيا على هذه المياه، وذلك ما جعل 'هيرودتس' يقول إن مصر هي هبة النيل، وعلى مدى التاريخ لم تشعر مصر بأي خطر من استمرار تدفق مياه النيل إليها، إذ لم تكن هناك حاجة عند دول المنبع إلى هذه المياه بكون كثير من تلك الدول تتمتع بقدر كبير من هطل الأمطار كما أن قوة تدفق المياه من الهضبة الحبشية يجعل من الصعوبة بمكان التحكم في تدفقها، غير أن المشكلة التي تواجهها مصر الآن ليست مشكلة فنية تتعلق بتدفق المياه إليها، أو حاجة بعض دول المنبع إلى هذه المياه، إذ أصبحت المشكلة تنطلق من الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في منطقة الشرق الأوسط خاصة مع ظهور دولة الكيان الصهيوني في هذه المنطقة، وكما هو معروف فإن العلاقات المصرية الإسرائيلية بدأت عدائية وأن مصر كانت تعد نفسها لمواجهات عسكرية مع إسرائيل، لكن تغير هذا الوضع مع حكم السادات الذي وقع اتفاقية صلح مع هذه الدولة، غير أن هذا الصلح لم يجلب الاطمئنان لإسرائيل إذ هي لا تريد أن تعود مرة أخرى إلى مرحلة التهديد، ومن أجل ضمان ذلك فهي تريد أن يكون لها نفوذ في مصادر المياه التي تصل إلى مصر بكون هذه نقطة الضعف الوحيدة التي يمكن أن تواجه مصر إذا لم تكن لها قدرة على التحكم في المياه. وكانت إسرائيل قد سبقت هذه المرحلة بإنتاج ترسانة من الأسلحة النووية، بل رشحت أنباء تقول إنه في حال تعرضت إسرائيل لأي تهديد فإنها قد تدمر السد العالي الذي سيغرق مصر كلها. ويدل ذلك كله على أن إسرائيل لا تنظر إلى إمكان حدوث علاقة طبيعية بينها وبين مصر، ويزداد قلقها في الوقت الحاضر بعد ثورات الربيع العربي التي صعدت الإسلاميين في سلم الحكم وهو ما تعتبره إسرائيل خطرا حقيقيا يهددها ويجب أن تواجهه بموقف استراتيجي، وذلك ما جعلها تتدخل في دول وسط أفريقيا من أجل جعلها تطالب باتفاقية جديدة لتوزيع مياه النيل وهو ما اتجهوا إليه بالفعل، وقد أصبح الوضع أكثر خطورة بعد انفصال جنوب السودان الذي حدث أيضا بتدخلات إسرائيلية، وعلى الرغم من كل ذلك فإن مصر مازالت تواجه هذه الأخطار بأسلوب تقليدي مثل أن تسعى لتحسين علاقاتها مع دولة جنوب السودان وإيجاد أرضية للتفاهم مع إثيوبيا وكأن الأمر لا يعدو أن يكون خلافات سياسية وليس خلافات استراتيجية لتحقيق أهداف لا يمكن التفاهم بشأنها .ولا يبدو حتى الآن أن مصر تعطي اهتماما للعلاقة الاستراتيجية بينها وبين السودان، وهي علاقة تحقق مصالح البلدين معا ولا يمكن بدونها أن تتحقق مصالح أي منهما.
ويبدو ذلك واضحا عندما عقدت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان المصري برئاسة الدكتور عصام العريان اجتماعا خاصا من أجل تحديد كيفية إعادة بناء علاقات جديدة مع دول حوض النيل وتجاوز الموقف الحالي بين مصر وهذه الدول، وذلك تكرار لمواقف سابقة تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية، ذلك أن المشكلة بين مصر ودول حوض النيل ليست مجرد علاقات دبلوماسية، وإنما هي مخططات استراتيجية تحتاج إلى عمق في النظر أكبر بكثير مما هو سائد الآن.
وتقول اللجنة إن الاجتماع الذي عقده العريان استمع إلى عرض تفصيلي شارك فيه السفير مجدي عامر الذي يتولى منصب مساعد وزير الخارجية المصري لشؤون حوض النيل، وكذلك الأستاذ هاني رسلان رئيس تحرير ملف الأهرام الإستراتيحي ورئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل في مركز الأهرام للدراسات، وقد بحث الاجتماع النقاط الخلافية حول اتفاقية 'عنتيبي' ، وقال مساعد وزير الخارجية المصري أن هناك اجتماعا سوف يعقد في 'رواندا' في شهر يوليو يقدم فيه اقتراح سوداني مصري مشترك. وقال السفير مجدي عامر أن هناك اتفاقا غير مكتوب بين مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة الذي تزمع إثيوبيا إقامته، وقال السفير إذا ثبت أن هناك أضرارا ستلحق بمصر والسودان فيجب أن يعاد النظر في تصميم هذا السد.
وقد أشار 'هاني أرسلان' إلى جوانب مهمة وإن لم تشتمل على رؤية شاملة، وذلك عندما قال إن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة المياه وإنما يشتمل على قضايا سياسية واقتصادية تحتاج إلى نوع من التنسيق بين مصر والسودان .كما طالب بتكوين هيئة مصرية لحوض النيل وأفريقيا تابعة لرئاسة الجمهورية لتضع السياسات وتنسق بين المؤسسات المختلفة. ورأى أن مصر بحاجة إلى العودة بقوة إلى المجال الأفريقي لتسهم في حل النزاعات ٍودعم المطالب الأفريقية في كل المجالات الدولية، ويبدو من كل ذلك أن البعض ما زال يتعامل مع القضايا الأفريقية بالأسلوب نفسه الذي كان سائدا في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ذلك أن سائر الدول قادرة اليوم على معالجة مشاكلها في المحافل الدولية بالدرجة نفسها من الكفاءة.
والمهم أن تدرك مصر أن المشكلات التي تواجهها بشأن مياه النيل لا تتركز حول العلاقات العامة وإنما هي مشكلات تنبع من وجود مخطط خارجي يستهدف مصر ولا يريد أن تكون لها قوة في المستقبل، وبالتالي يجب أن تواجه مصر هذا الموقف بشيء من القوة لأنه حتى لو تمكنت من حل مشاكلها بالطرق الدبلوماسية فإن ذلك لن يتم إلا بعد أن تقدم كثيرا من التنازلات وهو ما سيحقق جانبا مما تهدف إليه بعض الدول وفي مقدمها إسرائيل، والحقيقة التي يجب أن تدركها مصر في جميع الأحوال هي أن منابع النيل تبعد عن حدودها بآلاف الكيلومترات ولكي تحافظ على مصالحها فيجب أن تقوم بأمرين أولهما أن تقترب من هذه المنابع بتدعيم علاقتها مع السودان لأن له مصالح مشتركة معها، وأن تمتلك أيضا قوة ردع حاسمة تجعل الذين يفكرون في التآمر عليها أن يعيدوا النظر ألف مرة في أسلوب تفكيرهم.