نبيل عمرو
تنفس الفلسطينيون الصعداء، وهم يتلقون خبر تقديم المملكة مبلغ مائة مليون دولار كمساعدة عاجلة للخزينة الفلسطينية laquo;الخاويةraquo;.
ولقد أعادت هذه المبادرة، التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى الذاكرة الجمعية الفلسطينية، دور المملكة في دعم الفلسطينيين استراتيجيا قبل أن يكون ماليا، وهو دعم تميزت به المملكة وأدته بالتزام منهجي منذ نشوء القضية الفلسطينية.
وإذا كان متاحا إحصاء المبالغ التي قدمتها المملكة منذ بداية النكبة ثم الثورة ثم السلطة، فإن ما يبدو صعبا إحصاؤه والإحاطة به ndash; رقميا ndash; هي تلك المليارات الكثيرة التي حولت لفلسطين من خلال فرص العمل التي وفرتها المملكة وأخواتها من دول الخليج، واستفادت منها الملايين على مدى سبعة عقود طويلة، فأدت فيما أدت من مزايا إلى تنمية الاقتصاد الفلسطيني المثقل بالكوارث والعلل، إضافة إلى ما هو أهم من ذلك، أي تعزيز الصمود الوطني على الأرض ما أبقى القضية الفلسطينية على قيد الحياة، على الرغم من المحاولات القوية والفعالة لإلغائها وإخراجها من دائرة التداول السياسي الإقليمي والدولي.
وفي الشأن الفلسطيني، فإن الأمر لم يكن مقتصرا على الجانب المالي، وإذا ما روجعت السياسة السعودية القومية والدولية، وتم التدقيق في أسسها وأدواتها ومواقفها، فإننا نخلص إلى حقيقة لا جدال فيها، وهي أن المملكة استخدمت كل نفوذها وأوراق قوتها وتأثيرها في محاولات لا تتوقف من أجل بلوغ حل سياسي للقضية الفلسطينية، قوامه الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وعنوانها laquo;الحرية والاستقلالraquo;. كان ذلك بمبادرات من جانبها بما في ذلك تجاوز الخطوط الحمراء حين أعلن المغفور له فهد بن عبد العزيز فكرة الجهاد المقدس، إذا لم يبادر العالم إلى تقديم حلول، وبعدها المبادرة العربية للسلام التي وإن لم تحقق تسوية حتى الآن إلا أنها وضعت على الطاولة - لأول مرة ربما - حلا عربيا إسلاميا كان مفتقدا منذ عقود.
وفي ظل الأزمة الدائمة التي يعانيها الوضع الفلسطيني بفعل الاحتلال وتراجع فرص الحل.. كانت تنشأ بين وقت وآخر أزمات فلسطينية عاصفة، كان للمملكة دور مميز في محاولات حلها، وأكتفي هنا بإيراد أمثلة دالة على هذه الأزمات وكيفية التعاطي السعودي معها، ومنها أزمة الانشقاق الفلسطيني الأول الذي وقع في عام 1983 وكانت حاضنته الجغرافية سوريا وحاضنته التمويلية ليبيا.
كان الموقف السعودي من حيث التأثير هو أخطر المواقف، وكان ياسر عرفات يراه مؤشرا مصيريا فإذا ما انحازت المملكة إلى سوريا فالأمر سيكون جد خطير، ولقد تم إنقاذ الشرعية الفلسطينية بموقف سياسي حاسم حين لم تعترف المملكة بالانشقاق ولم تغير موقفها من شرعية عرفات، فكان الموقف السعودي المتماثل في هذه النقطة مع الموقف السوفياتي هو أحد العوامل الفعالة في تجاوز ازدواجية الشرعية ووأدها على الرغم من خطورة الحاضنتين السورية والليبية. غير أن الأزمة الأكبر والأخطر تجسدت في الموقف الفلسطيني المؤيد لاجتياح صدام للكويت وهو موقف أحدث صدمة كبرى لدى القيادة السعودية.
فقاطعت عرفات بعد أن كان الابن المدلل للمملكة والمستثنى من كل الطقوس والاعتبارات السعودية في ممارسة السياسة بما في ذلك هبوطه بالطائرة الملكية في مطار موسكو حين كانت العاصمة الحمراء واحدة من المحرمات. غير أن الالتزام السعودي التاريخي والأخلاقي بالقضية الفلسطينية كان عامل التلطيف الفعال في الموقف من عرفات، فكانت السعودية آخر من غضب وأول من صفح، وتم تسجيل الموقف الفلسطيني المرفوض سعوديا تحت بند المواقف الخاطئة التي يمكن إصلاحها.
هنالك ميزة تستحق التنويه في سياسة المملكة تجاه فلسطين والفلسطينيين، وهي عدم إخضاع الدعم بكافة أشكاله لأجندة خاصة.. كان الدعم مفسرا بأنه تقيد بوصية المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز، تلك الوصية المستمدة من مسؤوليات المملكة الدينية والقومية والأخلاقية، فكان الدعم فوق الأجندات وفوق الشروط، ولم يحدث أن تدخلت المملكة في الشأن الداخلي الفلسطيني بل كانت تتدخل حين تدعى إلى ذلك وفق اعتبارات وضوابط يحترمها الفلسطينيون.
ولعل ما يدل على هذا البعد وهو أخلاقي يرتفع فوق الحسابات المألوفة، مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز؛ لإنجاز المصالحة الفلسطينية في مكة.
كان السعوديون يعرفون ملابسات الانقسام ومواقف دول العالم منه وشروطها المحددة في هذا الأمر، وكره الولايات المتحدة لأي محاولة وفاق بين فتح وحماس قبل أن تغير حماس موقفها السياسي في أمر الاعتراف بإسرائيل، إلا أن خادم الحرمين الشريفين تحرك فور رؤيته بوادر اقتتال فلسطيني فلسطيني على أرض غزة، ودعا الفرقاء إلى كلمة سواء في مكة فألقى بكل ثقله لإنهاء الانشقاق.
ونظرا لمكانة المملكة صمتت أميركا وأوروبا وآخرون، ولعلهم كانوا متيقنين من أن الفلسطينيين سيقومون بتقويض الاتفاق ولا لزوم لإغضاب السعودية في أمر كانوا مطمئنين إليه. وقد كان غضب السعودية كبيرا حين أفشل اتفاق مكة، إلا أن هذا الغضب المشروع لم يصل حد تغيير السياسة واللجوء إلى العقاب.
هذه محطات وغيرها كثير في الشأن السعودي الفلسطيني أحببت التنويه إليها، بعد المبادرة الملكية السعودية لإنقاذ شهر الصوم وعيد الفطر من أن يكون شهر أزمة وحرمان. إلا أنني لا أملك بعد الشكر سوى القول أخيرا: إن المصلحة الحقيقية للفلسطينيين تكمن في تقليل الاعتماد الذي أصبح مطلقا على الدعم الخارجي وحتى السعودي، فلم يسجل التاريخ أن كيانا عاش وسيبقى إلى الأبد معتمدا على الدعم الخارجي وبصورة شهرية ودائمة.
التعليقات