فواز حمد الفواز


بعد حرب الثلاثين عاماً في أوروبا تمت اتفاقية ويست فيليا عام 1648 التي تعد نقطة تحوُّل في قبول الدولة السيادية لسيطرتها على شؤونها الخاصة، وبذلك دخلت العلاقات بين الدول حقبة جديدة على حساب التدخلات ذات البُعد الديني والطائفي والعرقي. هذا المرجعية القانونية أصبحت مرتكزاً للدولة القطرية في العالم الغربي ثم امتدت إلى العالم الإسلامي والعربي بعد سقوط الدولة العثمانية. أصبحت الدولة القطرية هي الوحدة السياسية قانونياً وواقعياً، ولكن لأسباب تاريخية بتفرعاتها السياسية والاقتصادية لم تكتمل عملية التحوُّل، ولعل اختبار الأزمة في سورية مثال صارخ على هذه الحالة، فالرئيس الأسد يقول إنه ليست هناك مشكلة سياسية في سورية على الرغم من أن أقلية طائفية لم تتردّد في استخدام العنف الممنهج للاستمرار في السلطة. سورية مثال شنيع ولكن الاحتقان الطائفي عدو مشين في كل دول المنطقة من باكستان وإيران إلى المغرب.

الاحتقان الطائفي أحد إفرازات الفشل التنموي ولكن سرعان ما يصبح عاملاً سلبياً مؤثراً لمزيد من الفشل التنموي. فبدلاً من دائرة خيرة تدخل المجتمعات دائرة شريرة إذا لم تجد حلولاً ذكية للتعامل مع هذه القضايا التي نهايتها العنف والضرر على المجتمعات. لن أدخل في الخلافات والاختلافات والقراءات التاريخية والتغيرات التي تخدم وجهات نظر سياسية لأي طرف ولكن سوف أتطرق إلى المدخل الاقتصادي لزيادة تماسك اللحمة الاقتصادية وتوظيفها كمدخل للمسارات الاجتماعية ثم السياسية لاحقاً. أحد مسبّبات الضعف المؤسساتي هو تنامي الدور الحكومي من خلال هيمنته البيروقراطية وجمودها وعدم مرونتها وحساسيتها. فهذه القوالب الثابتة تضعف التواصل المجتمعي حيث يصبح المجتمع عبارة عن جزر معزولة دون ترابط أفقي أو رأسي ذات اعتماد على العلاقات العملية التي بدورها معتمدة على المواهب والإنتاجية والتعليم والتي بطبعها فطرية في الأساس وإنسانية الممارسة ومنطقياً خاضعة للتوزيع الطبيعي وبالتالي هي نافية ومتناقضة مع النهج والقوالب البيروقراطية التي تساعد على التمترس غير الصحي.

عملياً التخصيص الفاعل وليس إعادة هيكلة حكومية سطحية وتوزيع جزء من الموارد، خاصة النفطية بالتساوي على أفراد المجتمع كفيل بإعادة التشكيل اللازم والتغيير النوعي لإبعاد الناس عن منظومة فكرية وممارسة عملية خاطئة وضارة. ليس هناك أفضل من إشغال الناس بما يغنيهم معنوياً ومادياً. هذا الغنى سيكون مرتكزاً فكرياً وعملياً جديداً لإعادة الحسابات الداخلية وأنماط العلاقات بين فئات المجتمع وبالتالي حرص الجميع وتكاتفهم للذود عن مصالح مشتركة وإحساس بالتساوي والعدالة. هذا الإحساس كفيل بإعادة المجتمع إلى الدائرة الخيرة. فالتشابك المصلحي بين جميع الفئات يخدم الاستقرار.

أثبتت الأزمات العربية أن مصدرها اقتصادي في العمق، فمن دون حلول تنموية التي في قلبها التعامل مع الهياكل الاقتصادية لن تتحرّك هذه المجتمعات من قوالبها الفئوية، خاصة الطائفية البغيضة. ليس الاقتصاد هو الحل لكل شيء ولكن دون الاقتصاد لن يكون هناك حل لأي شيء. إدراك معادلة الخلل التنموي والعمل على تقويمه ما زال ممكن التدارك، ولكن الوقت لن يسعف المجتمعات والنخب المتقاعسة.