عبد الاله بلقزيز

في صورة العلاقة بين الإدارة الأمريكية والحركات السياسية الإسلامية، اليوم، متغير جديد لا سبيل إلى الاعراض عن رؤيته بكل اليقظة الفكرية المطلوبة، لاتّصاله بالهندسة السياسية التي تعد، بإحكام، لمستقبل الوطن العربي، ونوع النظام السياسي الذي ينبغي أن يقوم فيه: من وجهة نظر الهندسة الأمريكية تلك . والمتغير هذا ليس طارئاً أو عادياً، ولا ينبغي - لذلك السبب - استصغار شأنه، وإنما يوشك أن يتحول إلى استراتيجيا سياسية شاملة، بدليل أنه لم يقتصر على حالة عربية دون أخرى، ثم بدليل أن التعبير عنه في خيارات سياسية رسمية أمريكية كشف عن حال من الإجماع عليه: في الإدارة، والكونغرس، والإعلام، ولدى الطبقة السياسية من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) . وإذا اضفنا، إلى هذه القرائن، ملاحظة حالة التطابق، في الرأي والتقدير والسلوك السياسي، بين سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وسياسات الدول الأوروبية تجاه الحركات الإسلامية، توافر دليل آخر، فائض، على أن الأمر - في هذا المتغير - يتعلق، فعلاً، باستراتيجية شاملة وليس بمجرد خيار طارئ أو عارض سرعان ما ينحسر ليخلي المجال لغيره .

ما المتغير السياسي الذي نعنيه؟

إنه، ببساطة، التحول الكبير في موقف الإدارة الأمريكية من الحركات، التي كانت تطلق عليها اسم ldquo;الأصولية الإسلاميةrdquo;: من حسبانها عدواً، يجب محاربته وتطويقه واجتثاته، إلى حسبانها حليفاً أو - على الأقل - فريقاً سياسياً مقبولاً، بل يطلب منه، اليوم، أداء دور سياسي في بلدانه من موقع السلطة، وهو تحول غير قليل الشأن بالنظر إلى المدى الذي كانت قد بلغته سياسات المواجهة الأمريكية لهذه الحركات إلى عهد قريب، إما من طريق مباشر، وبوساطة الأدوات الأمريكية، أو من طريق غير مباشر، عبر دعم الأنظمة السياسية القائمة - في معاركها المديدة - مع الحركات الإسلامية المعارضة: المسلحة وغير المسلحة، المتطرفة والأقل تطرفاً . إن حروب أمريكا، وعملياتها الاستخبارية والأمنية، على تنظيم ldquo;القاعدةrdquo;، في مركزه الأفغاني وفي ldquo;فروعهrdquo; العربية والدولية، وعلى ردائفه ldquo;الجهاديةrdquo;، المختلفة، معروفة، ومعروفة حدتها وشراستها اللتان لا تضاهيمها، في الحزم والصرامة، سوى حدة الحرب الاقتصادية والمالية وشراستها على تنظيمات ldquo;الأصوليةrdquo; الإسلامية، لتجفيف ينابيعها ومواردها المادية، وعلى البلدان التي توفر ملجأ، أو ملاذاً آمناً، لتلك التنظيمات . ولم تكن المواجهة غير المباشرة أقل حدة، فإلى دعم سياسات الاستئصال الأمني، التي نهجتها دول عربية عدة مع الإسلاميين، والتغطية السياسية على الارتكابات الفظيعة تجاه حقوق الإنسان - كما في تونس بن علي ومصر مبارك - ضغطت الإدارة الأمريكية، بشدة، على معظم الأنظمة العربية لإحداث تعديلات في البرامج التعليمية، وفي السياسات الدينية، لاجتثات ldquo;ثقافة الكراهيةrdquo; والتطرف التي تتلقنها الناشئة، ثم لكفّ الدعم المالي للمؤسسات الدينية التي يثبت دفاعها عن أفكار التطرف . . إلخ .

ورب قائل يقول، منبهاً أو معترضاً، إن سياسات المواجهة الأمريكية للحركات الإسلامية، في المرحلة الماضية، لم تكن واحدة، وإنما تعددت بتعدد القوى التي وقعت عليها: بين متطرفة، مسلحة، ومجاهرة بالعداء لأمريكا والغرب، وقوى معتدلة، سياسية، ومستعدة للحوار مع أمريكا، و- بالتالي - سيكون في باب المبالغة، وعدم الدقة، الحديث عن سياسة أمريكية، بالمفرد، لا عن سياسات متنوعة . والملاحظة الاستدراكية صحيحة بشرط أن لا يبنى عليها الاستنتاج، أو الاعتقاد، بأن تنوع تلك السياسات (الأمريكية) لم يكن يحكمه موقف جامع من الحركات الإسلامية جملة وتفصيلاً . وليس يغير من هذه الحقيقة أن أمريكا حاربت، عسكرياً، قسماً من الإسلاميين وليس الإسلاميين جميعاً، ذلك أنها حاربت من حملوا السلاح في وجهها، أما من اكتفوا بنقدها سياسياً فاكتفت بالضغط السياسي عليهم: مباشرة أو بالوسائط . والأهم من ذلك، أن على من قد يلتمسون الأعذار لتلك السياسات في الماضي، بدعوى أن أمريكا غيرت مواقفها السلبية، أن لا ينسوا أن الإدارات الأمريكية ظلت تتهم الحركات الإسلامية ldquo;المعتدلةrdquo; بكونها الرحم التي خرجت منها القوى ldquo;الجهاديةrdquo; المسلحة، وتكون فيها وعيها . . إلخ .

ما الذي يفيده هذا الاستدراك على الاستدراك؟

إنه يبغي التشديد على ذلك التحول الكبير الذي طرأ منذ عام ونصف العام، في الموقف الأمريكي من حركات كانت إما في حكم العدو، أو في حكم الخصم السياسي الذي يخشى جانبه، والذي ينبغي حصار دوره ووجوده السياسي، وإحكام الرقابة عليه . وهو تشديد يروم تبديد أي تبرير ممكن قد تأتيه الضحية، اليوم، من الجلاد، من طريق التهوين من فصول العداء المتبادل بينهما في الماضي القريب . وأظهر ما في هذا التبرير، اليوم، أن يقال - وقد قيل - إن تغير الموقف الأمريكي من ldquo;الإسلام الحزبيrdquo; إنما يرد إلى أن الإدارة الأمريكية ldquo;اقتنعتrdquo; بأن الحركات الإسلامية تتمتع بقدرة تمثيلية كبيرة، وليس كما كانت تصورها الأنظمة القائمة وأجهزتها الأمنية، وأن هذه الحركات وصلت إلى السلطة ب ldquo;الاقتراع الديمقراطيrdquo;، وأصوات الشعب، وليس من طريق العنف المسلح .

من نافلة القول إنه تبرير ضعيف، حتى لا نقول إن من وظائفه تلميع صورة الإدارة الأمريكية بما هي جهة تحترم إرادة الشعوب، حين تفصح عنها هذه الشعوب عبر صناديق الاقتراع، ولعمري إن ذلك يتجاهل حقيقتين في ملف العلاقة بين أمريكا وهذه الحركات، طيلة العقدين المنصرمين: أولاهما أن الولايات المتحدة ودول أوروبا تعرف، على التحقيق، وفي ذروة صراعها - المسلح والسياسي - مع الحركات الإسلامية، أن هذه الأخيرة ذات حيثية سياسية تمثيلية في بلدانها، وما كانت في حاجة إلى انتخابات ldquo;الربيع العربيrdquo; كي تكتشف ذلك، وتبني على مقتضاه سياسة جديدة، وثانيهما أن الإسلاميين - وصلوا إلى السلطة - قبل ما يسمى ldquo;الربيع العربيrdquo; - بالاقتراع الانتخابي الحر والنزيه: في جزائر ما بعد الثورة اكتوبر ،1988 في انتخابات البرلمان (المجلس الشعبي الوطني)، (1991)، بأغلبية كاسحة، وفي أراضي ldquo;أوسلوrdquo; الفلسطينية، في انتخابات المجلس التشريعي (2005) . لكن الإدارة الأمريكية، وحليفاتها الغربية، وقفت بشدة في وجه صعودهم بالطرق السلمية، وعبر الانتخابات، لأنها لا ترغب في أن يحكموا، حتى لو كان ذلك بإرادة من الشعب . لا مهرب، إذن، من الاعتراف بأن تغييراً كبيراً طرأ على الموقف الأمريكي - والأوروبي استطراداً - من الحركات الإسلامية في الحقبة الأخيرة . على أن الأهم من التسليم بذلك التغيير، فهمه وتحليل عوامله وأسبابه .