أمجد ناصر
ندخل عاما جديدا ولا بوادر حلٍّ سياسيّ جديّ للكارثة السورية تلوح في الأفق. كان هناك بصيص أمل لاح مع الانفراجة النادرة لأسارير الاخضر الابراهيمي قبيل زيارته الاخيرة الى دمشق، لكن سرعان ما تبدد ذلك البصيص بعد لقائه سيرجي لافروف 'مفتاح' الحل المنتظر. عاد وجه الابراهيمي الى الانغلاق وقال مهدداً مَنْ لا يسمع ومَنْ لا يهمه إنْ سمع: إما الحل السياسي أو الجحيم! لم ير السوريون الحل السياسي الذي يصبون اليه ولا شك، لكنهم يرون صوراً من الجحيم كل يوم. الجحيم فتح أبوابه مبكرا في سورية، لكن الابراهيمي لم يره، أو ربما لا يعتبر ما حصل، حتى الآن، جحيما. إن كان تدمير القرى والبلدات والمدن ورمي الأحياء والأموات ببراميل البارود وتنفيذ الاعدامات الميدانية وتقطيع أوصال الرجال والنساء والأطفال بالسكاكين وتهجير مئات الآلاف ورميهم في عراء الداخل أو الخارج وسدّ الآفاق أمام أي أمل بالخلاص.. إن كان ذلك ليس جحيما فما هو الجحيم إذن؟
انتهى عام كارثي في سورية بكل المقاييس. دخلنا عاما جديدا لا يبدو في سمائه الملبَّدة بدخان الحرائق ما يوحي بأن الأسوأ صار وراء ظهورنا. كل ما يجري في سورية وخارجها لا يبشر بخير. لا النظام، الممعن في جرائمه، وصل الى قناعة بأن حله العسكري فاشل وأن المزيد من الجرائم لن يصنع تحولاً في مجرى 'الصراع' ولن يعيد الأمور الى ما كانت عليه من قبل، ولا العالم الخارجي يبدي اهتماما فعليا بما يحدث في سورية بحيث يبادر، على أي نحو وفي أي شكل، لوقف نهر الدم الهادر وفرض 'تسوية تاريخية' على الجميع.
كان هناك اهتمام نسبي بما يجري في سورية عندما لم يكن عدَّاد القتل يتجاوز خانة الأرقام المزدوجة لكن هذا الاهتمام، للعجب، تراجع، باطراد، مع تصاعد العنف وتحوّله الى عمليات قتل جماعي سادرة.. قبل عام هزَّت صور الطفل حمزة الخطيب العالم، واليوم لا تحرك أخبار وصور المجازر وعمليات القتل واسعة النطاق ساكناً. هذا يسمى التبلُّد الحسيِّ. أقتل كل يوم يتحوّلُ القتل من جريمةٍ واستثناءٍ الى عاديٍّ ومبذول. إنه تطبيع للعين والأذن والقلب مع الركام والجثث والبشر الهائمين على وجوههم والاستغاثات التي لا مجيب لها. ومع مرور الوقت يتحول هذا الفعل الاجرامي الخارق للعادة الى ما هو أسوأ من الاعتياد: الضجر! هذا ما يحدث في خصوص الكارثة السورية. إشاحة بصر كاملة.
هل هناك رسالة للنظام، لمواصلة انتحاره السياسي، أبلغ من هذا الصمت الكوني (المحتوى الحقيقي للمؤامرة الكونية) الذي يشبه التواطؤ ويشبه الضوء الأخضر، أو يشبه، في أفضل الأحوال، عدم الاكتراث؟ لا أعرف إن كان هناك تشجيع لبشار، والعصابة الملتفَّة حوله، العصابة التي تحضَّه على مزيد من القتـــــــل، أكثر من هذا الخرس التام في السياسة الغربية المنافقة التي تتحدث عن شيء وتفعل شيئا آخر. لن نتحدث عن روسيا فهي التي تقــــــتل السوريين الآن، وهي التي تحول دون ايجاد مخرج لهذه الكارثة التي سترجع ســــورية عقــــودا الى الوراء. الاستبداد الستاليني المتلكئ في السياسات الروسية هو عدو الشعب السوري الآن، هو مشــــكلتــــه، ليس لأنه يمد بشار وانكشاريته بالسلاح، ولكن لأنه يحول دون الوصول الى حل سياسي ينــــقذ سورية مما تنحـــدر اليه من مصائر مظلمة، ولأنه دخل، مع الــغرب، في لعبة أمم قذرة على حساب دم السوريين.
' ' '
قد يكون مفهوما أنَّ روسيا تسعى، بلا استعجال، الى ثمن لقاء مساعدتها في ايجاد حل سياسي في سورية، فهذه، في نهاية المطاف، ليست بلادها ومَنْ يقتلون ويشردون ليسوا شعبها، ولكن ما الذي يأمله بشار بمواصلته هذا الانتحار السياسي؟ أي شيء يرتجيه الآن بعدما اصطبغت ارض سورية بالدم؟ بودي، فعلا، أن أعرف. هل يأمل، حقاً، أن يعيد عقارب الساعة الى الوراء؟ هل يمكن طي ما حدث: مقتل عشرات الآلاف وجرح مئات الآلاف وتشريد الملايين ومسح قرى وبلدات وأحياء من على وجه الأرض؟
أهذا ممكن؟ بما أنه غير ممكن. وبما أن إحكام قبضته على البلاد غير ممكن أيضا، بل مستحيل، فما الذي يرتجيه من إمعانه في نحر 'شعبه' و'بلاده'؟ لكن لو كان هذا شعبه ما فعل به ما لا يفعله العدو. لو كانت سورية بلاده ما فعل بها ما لا يفعله المحتل. ليس هذا شعبه. ليست هذه بلاده. ليس للطاغية شعب بل عبيد، وليست له بلاد بل مزرعة. ثم إن الطاغية لا يفكر مثلنا. فعندما قلت بودي أن أعرف ما الذي يفكر فيه بشار فذلك لأنه لا يشبهنا، خصوصا بعدما سقط عنه قناع 'الطبيب' و'الرئيس الشاب' الذي تعلم في الغرب ويأكل الخبز ويمشي في الأسواق مثله مثلنا. كلا إنه ليس مثلنا. لذلك فشلنا في فهمه والحكم عليه ولا نزال نفشل في فهم ما 'يقاتل' من أجله. الطاغية ليس مثل أي أحد آخر. لو كان الأمر كذلك لما مات القذافي تلك الميتة الشنيعة. كان لديه باب خروج آمن وأغلقه بيده. دفع أولاده الى الموت (ناهيك عن مؤيديه) من أجل كرسي ملطخ، أصلا، بالدم، ومات هو تلك الميتة الشنيعة التي تليق بالطغاة المبتذلين وحدهم. هل يتراءى هذا المصير لبشار وعصابته المجرمة؟ لا اعلم.
لكن مصيره لن يكون أفضل. لم يحصل، قط، أن نجا الطغاة بأفعالهم. قد يفعلون لبعض الوقت لكن ليس طول الوقت. كل الطغاة، عبر التاريخ، دفعوا، عاجلا أو آجلا، ثمن جرائمهم. ولن يكون بشار مختلفا عنهم. لن يفر من دم القتلى وأنين الجرحى وصرخات الثكالى واليتامى الى الأبد. ستطاله أيدي ضحاياه حتى لو كان في بروج مشيدة. سيحصل هذا. ولكن حتى يحصل هذا الذي لا مفرَّ منه ستغرق سورية بمزيد من الدم. سيتسع نطاق الدمار أكثر. ستعود، على كل صعيد، عقودا إلى الوراء.. ما لم تحصل المعجزة.. ونسمع الخبر العاجل، الخبر الذي طال انتظاره.
- آخر تحديث :
التعليقات