نواكشوط - المختار السالم
اندلعت الحرب في مالي، وباتت الكلمة الآن للسلاح على الأقل في هذه الجولة، وتدل معارك الأيام الماضية على أن الطرفين الرئيسيين (فرنسا والجماعات الإسلامية)، تجاوزا حالة الصدمة، وشرعا في الإعداد للمراحل اللاحقة، فيما أدى نجاح الفرنسيين في وقف تقدم الإسلاميين المسلحين نحو الجنوب إلى تشجيع الدول الإفريقية على إرسال قواتها للمشاركة في حرب مالي .
اندلعت حرب مالي في الموعد المحدد، رغم أن الإعلان عن مسار الأحداث لم يوح بذلك، فأطراف الحرب أعدت لبدء المواجهة، والمعلومات الدقيقة التي حصلت عليها ldquo;الخليجrdquo; تؤكد أن القوات الفرنسية من طائرات ونخبة كوماندوز وصلت جنوب مالي قبل اندلاع العمليات بأسبوع كامل، وقدمت من تشاد وبوركينافوسو ودول أخرى، كما كان مئات الأفراد من قوات الصاعقة من دول إفريقية متمركزين قرب ldquo;سفاريrdquo; قبل اندلاع المعارك بيومين .
فيما كانت حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; بدورها قد أوقفت المفاوضات مع حكومة مالي بعد تعنت هذه الأخيرة ورفضها لأن تكون ldquo;أنصار الدينrdquo; الطرف الرئيسي في أي اتفاقية للسلام مع شروط إدارتها لإقليم أزواد وتطبيق الشريعة في الحوزة الترابية للإقليم، الذي يشكل 65% من الأراضي المالية .
هكذا بدأت حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; وحلفاؤها من فروع تنظيم ldquo;القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميrdquo;، إرسال مقاتليها إلى الجنوب بالتزامن مع وصول القوات الفرنسية إلى الخط الفاصل بين جنوب وشمال البلاد عند مدينة ldquo;سفاريrdquo; التي تبعد 700 كلم شمال العاصمة باماكو .
سعت الجماعات الإسلامية المسلحة في البداية إلى السيطرة على المواقع الإستراتيجية في وسط البلاد (مدن سفاري، وكونا، والمطار الوحيد في وسط البلاد . . .)، وسرعان ما انهار الجيش المالي بعد تعرضه يوم الجمعة الماضي لrdquo;مجزرة الحقيقيةrdquo; وفق وصف الصحف المالية، لكن التدخل الفرنسي كان حاسماً وأوقف تقدم الجماعات الإسلامية إلى الجنوب، وبالطبع كانت فاتورة الخسائر البشرية كبيرة خلال الأيام الأولى للمواجهة، فقد أحصى شهود عيان عشرات الجثث في شوارع كونا، وبدأ آلاف النازحين من عرب وطوارق مالي التدفق على حدود دول الجوار وخاصة موريتانيا، واعترفت مالي بفقدان 11 عسكرياً وجرح 60 آخرين، فيما فقدت فرنسا ثلاثة من رجالها بينهم ضابط، وخسرت الجماعات الإسلامية ما بين 46 قتيلاً و100 قتيل بحسب المصادر المالية، وكانت الخسائر في المعدات كبيرة .
سرعان ما أجمع الفرنسيون وراء قرار الرئيس هولاند بالحرب، ففي باماكو وجنوب مالي يوجد 6 آلاف فرنسي وتوجد 9 مناجم بينها الذهب، تستغلها جميعاً شركات فرنسية، وأعلنت فرنسا منذ البداية أن الهدف من تدخلها العسكري هو وقف تقدم الإسلاميين على الجنوب، معتبرة أن تدخلها جاء لمنع انهيار الدولة المالية، واعتبرت أن هدف الإسلاميين هذه المرة هو توجيه ضربة قاصمة لكيان الدولة المالية ذاتها، وشرّع مجلس الأمن الدولي التدخل الفرنسي وحث على سرعة التدخل الإفريقي لمواجهة الجماعات الإرهابية، وذلك على وقع المناشدات التي أطلقتها مالي وإعلانها التعبئة العامة، متوعدة بأن معركة تحرير الشمال من الإرهابيين قد بدأت .
بدورها، دول ldquo;الإيكواسrdquo; (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا) حثت على التدخل العسكري الإفريقي، وبادرت ثلاث دول (النيجر، السنغال، بوركينافاسو) إلى إعلان إرسال 1500 عسكري بمعدل 500 عسكري لكل منها للمشاركة في العملية الحربية بمالي .
بينما أعلنت أمريكا وبريطانيا والدول الغربية دعمها للعملية الفرنسية، وتمثلت مشاركة الدول الغربية وخاصة أمريكا، إسبانيا، ألمانيا، ميدانيا من خلال التقنية العسكرية والاستخبارات والتنصت والرصد والتخطيط، والطائرات من دون طيار، بينما لا يزال الوجود الغربي مقتصرا على الفرنسيين .
من بدأ الحرب؟
لا خلاف في أن حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; هي من أطلق الرصاصة الأولى في الجولة الجديدة من الحرب في مالي، وتوغلت نحو الجنوب، أي الأرض التاريخية للأغلبية الإفريقية المالية (9 ملايين نسمة)، ومركز ثقل مؤسسات الدولة المركزية المالية، وإن كنا أشرنا سابقاً إلى أن هذا التوغل نحو الجنوب سبقه وصول القوات الفرنسية .
ويرى الكاتب الموريتاني أبو العباس أن من أشعل الحرب في مالي ldquo;هو أقل الأطراف احتمالاً لأن يشعلها، فقد أعربت حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; التي يقودها إياد غالي عن جنوحها للسلام ونيتها في التفاوض، وذلك فيما فُهم أنه ضغط من الجزائر . غير أن الأحداث سرعان ما أخذت بعداً مغايراً عندما هاجمت ميليشا أنصار الدين وسطَ مالي حيث تقع الخطوط الأمامية للقوات المالية التي خسرت شمال مالي منذ تسعة شهور لمصلحة الجماعات المسلحة التي تضم غالباً الجماعات الإسلامية المقاتلة والحركات القومية التحررية الطوارقيةrdquo; .
كما أن موقف حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; تميز منذ بداية الأزمة المالية برفض استقلال إقليم أزواد والتمسك بالوحدة الترابية لجمهورية مالي، وظلت اشتراطات الحركة متعلقة بتطبيق الشريعة الإسلامية، نائية بنفسها عن طرح القوميين الأزواديين الذين شكلوا ldquo;حكومة استقلالrdquo; فور طرد الجيش المالي من ldquo;أزوادrdquo;، كما خاضت الحركة خلال الشهور الأخيرة عشرات الجولات من المفاوضات السرية والعلنية مع الماليين والدول المجاورة من أجل التوصل لاتفاقية سلام .
ويرى أبو العباس أن حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; جرَّت معها الحركات الإسلامية المتحالفة معها وخصوصاً ldquo;حركة التوحيد والجهادrdquo; القوية في مناطق غاو وتمبكتو، مضيفاً أن ldquo;أنصار الدينrdquo; استطاعت بتمويلها وحنكة قيادييها بناء تحالفات مع مجموعات السونغاي (أفارقة) والعرب وطوارق الظل غير المرتبطين بالحركات القومية الطارقية وحققت عقداً اجتماعياً مبنياً على تطبيق الشريعة والتحالف مع الكتل القبلية وجماعات حكماء القبائل . وهكذا استطاعت ldquo;أنصار الدينrdquo; استنفار معظم المقاتلين الإسلاميين للقيام معها بالهجوم الكبير على وسط ماليrdquo; . ويضيف أن قوات الإسلاميين استطاعت شق طريقها إلى ldquo;موبتيrdquo; . وبدا أنها ستتجه إلى المدينة الاستراتيجية لأخذها . وفي تلك الحالة كان طريقها ممهداً إلى سيغو ثم إلى باماكو، وربما إلى ما بعد باماكو .
وقال إن ldquo;السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا هاجم الإسلاميون المسلحون وسط مالي وهم الذين يسيطرون على مناطق واسعة ومجال ترابي أكبر من فرنسا، هذا إضافة إلى عملهم الافتراضي في مجالات عابرة لهذا في وسط مالي وشرق جنوب موريتانياrdquo;؟
واعتبر أبو العباس أنه ldquo;لا يبدو أن الحركات الإسلامية قامت بالهجوم فقط بسبب نيتها التوسعية التي- وإن كان لا يمكن إنكارها من عدمها- إلا أنها غير مبررة في ظل سيطرة الجماعات على مساحات أكبر من قدرتها على حمايتها إضافة إلى سيطرتها على المنافذ المهمة لاقتصادها المعتمد على الاختطاف والتهريبrdquo; .
ويخلص إلى القول إن العملية الجديدة للجماعات المسلحة في الجنوب المالي ldquo;تبدو مُحّفَّزةً بعوامل دفاعية أكثر مما هي هجوميةrdquo;، وذلك على ضوء تصلب الموقف المالي وقادة ldquo;الإيكواسrdquo; في المفاوضات ضد الوجود الإسلامي في شمال مالي، والأنباء عن توافد القوات الفرنسية إلى مالي قبيل أيام من الحرب إضافة إلى تداول الأنباء عن تجهيز قوات ldquo;الإيكواسrdquo; . ويرى عدة محللين في نواكشوط أن هذه هي الرؤية الأصوب لدوافع حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; من بدء الجولة الثانية من حرب مالي .
ولا شك أن الوضع في الجنوب يخدم هذه الخطوة التكتيكية، فلا يزال قرار الدولة المالية ldquo;مختطفاًrdquo; من قبل النقيب سونوغو، ويسود التشرذم والانهيار الاقتصادي والبلبة مصادر القرار في باماكو، التي يقدم فيها ldquo;سونوغوrdquo; على إقالة رئيس الوزراء لأنه لم يرد على مكالمة هاتفية، وفق ما تتندر به مصادر أمنية في نواكشوط .
أهداف
لم تحدد حركة ldquo;أنصار الدينrdquo; الأهداف النهائية من عمليتها الحالية: دفاعية استباقية، أم عملية ضغط لفرض الأمر الواقع وإملاء شروطها للسلام على حكومة باماكو، أم عملية توسعية تهدف فعلا إلى تقويض الدولة المالية، وتحويلها إلى صومال جديدة يصعب فيها التدخل الخارجي، ويسهل فيها على الجماعات السلفية الاستمرار في لعبة تحطيم القرار المركزي، وفق نسخة القاعدة من ldquo;الفوضى الخلاقةrdquo; .
أما فرنسا فحددت دوافع تدخلها العسكري، بأنه من أجل وقف زحف الإسلاميين إلى الجنوب، وإيقافهم عند الخطوط الحمراء، أي منع الانهيار الكلي للدولة المالية وبما يسمح ببقاء صفة مركزية القرار والمؤسسات ولو شكليا، فلا شك أن المصالح الفرنسية في منطقة نفوذها التقليدية هذه أبعد مما هو معلن . كما لا شك أن قرار فرنسا التعجيل بسحب قواتها من أفغانستان كان للتفرغ لمعالجة الطوارئ في مستعمراتها السابقة، وخاصة ملف ldquo;القاعدة في بلاد المغرب الإسلاميrdquo;، وضمان المصالح الفرنسية في بؤرة التوتر الجديدة، إذ في مالي الفقيرة وحدها تمتص الشركات الفرنسية يوميا 9 مناجم مالية، بل لعله من المفارقة أن تبدأ ldquo;توتالrdquo; الفرنسية حفر البئر النفطية الثانية في ldquo;حوض توادنيrdquo; بموريتانيا، بينما وفي نفس اليوم، وعلى مئات الكيلومترات فقط يبدأ فيه التدخل العسكري الفرنسي في مالي .
هنا يطرح التساؤل نفسه، هل التدخل العسكري الفرنسي وشروع الجيش المالي في العمليات القتالية ووقفه مسلسل التراجع الذي بدأه منذ الحرب الماضية، وإرسال الدول الإفريقية قواتها إشارة إلى أن حرب تحرير الشمال بدأت بالفعل من معاقل تحصين الجنوب؟
إن ذلك مرتبط أساساً بالمدى الذي يمكن أن يذهب إليه التدخل الفرنسي، وحجم وفاعلية المشاركة الإفريقية العسكرية في هذه الحرب، وحجم التدخل والدعم الدوليين، فالجماعات الإسلامية المسلحة أجرت خلال الفترة الوجيزة الماضية مناورات عسكرية واسعة في تخوم الصحراء على حرب العصابات ومواجهة الجيوش النظامية والمناورة لتفادي قصف الطيران، كما حققت اختراقات كبيرة في صفوف عشرات الشبان الأفارقة من عدة دول والذين وصلوا إلى الشمال المالي وتخرجوا في كتائب جديدة اتخذت مسمياتها من ldquo;الزرقاويrdquo; وقاموس القاعدة، كما تأكد أن خبراء أفغانيين وباكستانيين من السلفيين الذين شاركوا بفعالية في الحرب هناك، وصلوا إلى الفرع المغاربي للقاعدة منذ خمسة أشهر لمده بالخبرة اللازمة لمواجهة القوات الغربية . بمعنى أن هؤلاء ldquo;الخبراءrdquo; السلفيين، هم الذين يؤول إليهم الآن قرار إدارة المعارك وحروب العصابات، وتطوير النسخة المغاربية من القاعدة، التي يراها خبراء عديدون هي ldquo;النسخة الأصليةrdquo; باستنادها إلى تجربة الحرب مع الإسلاميين في الجزائر .
دور الجزائر وموريتانيا
بعد أيام على بدء المواجهات في الجنوب المالي بين الإسلاميين المسلحين والجيش المالي وبروز التدخل العسكري الفرنسي إلى العلن، من جهتها، اكتفت الجزائر بالاعراب عن قلقها إزاء التطورات الحاصلة في مالي ودانت هجمات الجماعات المتشددة وزحفها نحو العاصمة المالية باماكو، وقال عمار بلاني المتحدث باسم وزارة الخارجية الجزائرية في بيان ldquo;تعرب الجزائر عن دعمها الصريح للسلطات المالية الانتقالية، وتحرص على تأكيد تضامنها الأخوي مع الشعب المالي حتى يتمكن من استرجاع سيادته الكاملة على ترابه الوطنيrdquo; .
ومن غير الخافي أن ملف منطقة الساحل ظل طوال العقود الماضية ldquo;ملفاً جزائرياًrdquo;، فيما يرى بعض المتابعين أن البروز المفاجئ لقوة السلفية الجهادية في مالي ومنطقة الصحراء، هو استهداف للدور الجزائري ومحاولة لإخراجها من حديقتها الخلفية ومجال نفوذها الإقليمي الأول في القارة السمراء .
على أن الاختبار الأصعب في هذا المجال أمام الجزائر هو الحد من فورة اندماج التدخل العسكري بين المحلي الإقليمي (الإفريقي) والأجنبي الفرنسي في حرب مالي، والحيلولة دون سباحة زورق النصر الفرنسي في بحيرة من دماء الأفارقة تحت ذريعة محاربة التطرف الإسلامي على ظهر التمكين للأجنبي .
وقد سعت الدول الغربية خلال السنة الماضية لتأمين مشاركة عربية في حرب مالي، فتم اللعب كثيراً على الترويج لاحتمال دور عسكري مغربي في شمال مالي يدفع الجزائر للتخلي عن تحفظها على التدخل الأجنبي حتى لا تفقد باقي أوراق مشكلة الصحراء الغربية، وفي المرحلة الراهنة تبرز ورقة الرهان على المشاركة الموريتانية في حرب مالي كورقة حاسمة، إذ كانت دول الإيكواس قد ألحت على حلفائها الغربيين للضغط على موريتانيا من أجل مشاركة الجيش الموريتاني في الحرب وهو جيش صحراوي خبير بالقتال في المناطق الصحراوية، وأعيد تسليحه مؤخراً، وسبق له أن ربح جولات التدخل العسكري في شمال مالي ضد القاعدة (2010-2011)، وكانت زيارة رئيس الوزراء المالي لنواكشوط الأسبوع الماضي قد ركزت على هذه النقطة ومطالبة موريتانيا بالتدخل العسكري .
وخلال الأسبوع المنصرم ركزت تصريحات المسؤولين الموريتانيين، بمن فيهم رئيس الوزراء أمام البرلمان على نقطتين: الأولى التمسك بوحدة الأراضي المالية، والثانية التوصل لحل تفاوضي يضمن حقوق عرب وطوارق أزواد، وهو موقف تم تنسيقه مع الجزائر السنة الماضية ووصل حد ldquo;التحالفrdquo; بين البلدين .
عوامل كثيرة تلقي بألوانها الجهنمية على المرحلة الحالية من حرب مالي . . فهناك تدخل عسكري أجنبي، هو الأول من نوعه، وهناك القاعدة التي تخوض حربها ldquo;المقدسةrdquo;، وعشرات الميليشيات التي تمتشق أسلحتها وتساوم هذا الطرف أو ذاك، وبحيرة من الدماء والقتلى والجرحى والمفقودين وآلاف النازحين والغارات من دون طيار على القرى، وأراض شاسعة سائبة، ومجتمع دولي يتحرك . . وكل ذلك يقول ldquo;أهلا بكم في أفغانستان الساحلrdquo; .
التعليقات