عبدالله ناصر العتيبي

كنت وما زلت أعتقد أن المناضل الأرجنتيني آرنستو تشي غيفارا رجل مريض معقد مشوّه وأناني، لا يطيب له عيش ولا تركن له نفس إلاّ في أوقات القلاقل والحروب، ومتى استقر المكان الذي يعيش فيه ونحا نحو النماء والرخاء، فإنه يختنق بنسائم الحرية والمدنية، ولا ينجو من الموت الافتراضي الهانئ إلاّ حينما يغادره باتجاه موت حقيقي جديد، وتهديد جديد، وملاحقة جديدة، وبطولة جديدة.

من شبّ على الثورة شاب على الشهرة والبطولة، والبطولة الرمزية للأشخاص لا مكان لها في النسيج المدني، لأن المجتمع بأكمله يتحمل مهمة البناء، وبالتالي تنتفي القيمة الرمزية المفردة، وهذا ما أدركه غيفارا جيداً منذ البدايات.

فعندما انتصر الثوار الكوبيون بقيادة فيدل كاسترو على النظام الحاكم في كوبا عام 1959، عُين غيفارا سفيراً لكوبا بعد حصوله على جنسيتها، في الأمم المتحدة ثم زعيماً للميليشيا الوطنية ثم رئيساً للبنك المركزي ثم مسؤولاً عن التخطيط وأخيراً وزيراً للصناعة. لكن لأنه شب على الثورة وتعوّد على البطولات الحقيقية والمتوهمة، فإنه لم يرض بهذا الوضع ولم يفكر ولو لحظة في أن يسهم في بناء كوبا كأي مسؤول أو وزير آخر، ولماذا يفعل ذلك وهو الذي سيفقد الكثير من حضوره اللامع وسيغيب عن أذنه ndash; اختياراً - صوت تصفيق العامة وهتافاتهم! زملاء كاسترو في الثورة تم تعيينهم في مناصب عليا في الحكومة، فهل نتذكر أحداً منهم اليوم؟ غابوا كلهم عن المشهد البطولي الرمزي المنفرد بمجرد أن قبلوا المساهمة في بناء كوبا من خلال وظائفهم المدنية الكبيرة. دخلوا طائعين في ميدان البطولة الجمعية متخلين عن أنانيتهم ومنكرين ذواتهم برغبتهم أو بعدمها laquo;التاريخ وكاسترو هما الحكمانraquo;، لكن بطلنا المشوه غيفارا لم يقتنع بزوال المجد الجماهيري، فآثر التخلي عن كل وظائفه الرفيعة بما فيها رتبته العسكرية وجنسيته الكوبية، وغادر كوبا إلى الكونغو لينضم إلى قائد الثورة التحررية لومومبا، بحثاً عن مجد بطولي جديد، لكنه تعرض إلى نكسات عدة، جعلته يغادر الكونغو بمجرد أن عرف أن ثورة جديدة أشعلت حرائقها في بوليفيا! وهناك في أحد الأودية المهجورة اغتيل هذا البطل الأسطوري (بحسب محبيه) على يد ضابط صف بوليفي صغير بعد وقوعه في أسر القوات الحكومية. مات غيفارا مدحوراً، لكنه ظل رمزاً لمن يستعذبون البقاء في الظلم بحثاً عن مخلّص جديد.

لكن هل تعامل فيدل كاسترو مع تشي غيفارا كما ينبغي، أم أن غشاوة النصر جعلته يضحي بغير قصد برفيق النضال؟

سؤال معقد، سأحاول الإجابة عليه خلال ما يلي من هذه المقالة.

اليوم تتكرر laquo;متلازمة غيفاراraquo; كثيراً في كل البلاد وفي كل المجتمعات. رجال يخلقون بطولاتهم الخاصة تحت ضغط ظروف معينة، ثم لا يعودون بعد ذلك قادرين على التخلص من متطلبات هذه البطولة، ويظلون طوال أعمارهم أسرى للهالة المكتسبة.

أبطال في البدء، ثم مرضى نفسيون في النهاية. يلاحقهم الضوء في بواكير الانتماء للقضايا، ويهربون من العتمة عندما تموت القضايا وتجف الأقلام وترفع الصحف. لا يلتفتون للتكريم والإعجاب والتصفيق في المراحل الأولى لتشكل بطولاتهم، لإيمانهم بوجود كل ذلك، ثم يعودون في النهاية لاستجداء laquo;نظرة عينraquo; ليثبتوا أنهم ما زالوا لاعبين أساسيين.

عندما عاد الجهاديون العرب من أفغانستان إلى أوطانهم لم يستطيعوا الاندماج في المجتمع. لم يستطع محمد أن يعود إلى وظيفته كموظف أرشيف في وزارة البلديات، ولم يقدر صبري أن يعود إلى محاضن التعليم. سعيد وجد في الأمر صعوبة، ولم يستطع التكيف مع وظيفته السابقة كرجل أمن في أحد الأسواق الرئيسة في مدينته، وعلي لم يستمر أكثر من شهر في وظيفته السابقة كموظف تسجيل في مكتب المواليد!

عانوا في بداية الأمر من البطالة، وأتعبهم الشعور بهامشية الوجود، لم يستطيعوا مواجهة laquo;بلدوزرraquo; المجتمع الذي لا يرحم laquo;البطل الذي لا يعملraquo;! هاموا على وجوههم في المدن، وأخيراً تواصلوا مع بعضهم من جديد وقرروا تشكيل تنظيم laquo;بطوليraquo; جديد يعيد لهم الضوء الذي صار بمثابة الهواء لهم!

لماذا تخلى كل هؤلاء الرفاق عن وظائفهم القديمة؟ لماذا لم يعودوا إلى ما كانوا عليه في بواكير حياتهم؟ ولماذا عادوا من جديد إلى النضال المسلح؟

البطل العائد، أو صاحب القضية المحلي، لا يستطيع التفريق بين بطولته وزمان ومكان القضية التي بنى على أساساتها مجده وحضوره. تنتهي القضية، لكنه يظل مؤمناً بوجوده الجديد ومنتمياً إلى وضعه الطارئ! فلا يعود كما كان أبداً. يظل يبحث عن أغصان جديدة للبطولة يبني عليها عشاً جديداً يميّزه عن بقية الناس. هؤلاء الطارئون ليسوا أيقونات ملائكية بعثها الله للأخذ بيد المجتمع، هم فقط أبطال الماضي الذين استظهروا أنانيتهم ونرجسيتهم في الحاضر، وانتموا إلى أنفسهم أكثر كي لا يموتوا في الزوايا المظلمة والرطبة كما أحسوا بها أول مرة!

والسؤال الجديد القديم يتكرر أيضاً: هل تعاملنا مع أبطال الصحوة ورجيع الجهاد الأفغاني وبقايا المجاهدين في الشيشان والبوسنة والهرسك كما ينبغي؟ هل نستطيع فعلاً أن نعيد هؤلاء المرضى إلى طبيعتهم بمجرد إدخالهم في لجنة مناصحة، ثم تفويجهم بعد ذلك زرافات ووحداناً إلى laquo;الاستراحة الشهيرةraquo; كفترة نقاهة، ثم إعادتهم إلى بيوتهم في النهاية؟

أخطأ كاسترو قبل خمسين عاماً، فحوّل غيفارا إلى بطل أسطوري، واليوم نكاد نقع في نفس المشكلة!

مثل هؤلاء لا يمكن معالجتهم نظرياً، وإنما يكون ذلك بتصميم برامج خاصة لهم تستنزف طاقتهم وتصنع لهم مسارح وهمية يقدرون من خلالها ممارسة بطولاتهم الوهمية. هؤلاء يحتاجون إلى مشاريع تستهلك حماستهم وتذيب بطولاتهم.

لنصنع لهم جماهير وهمية، ولنوجه مجهودهم إلى مسارب وقنوات تحويهم وتعتني بالتحولات في حياتهم، لنفعل بهم كما يفعل السجانون بسجناء الأشغال الشاقة!

لو كان الأمر بيدي لطلبت منهم نقل جبل laquo;طويقraquo; إلى مكان آخر غير مكانه، ثم إعادته إلى وضعه السابق، وتكرار هذه العملية إلى ما لا نهاية، والتصفيق والتكريم والاحتفال إلى ما لا نهاية! البطل لا يعود إنساناً عادياً. إما أن يظل بطلاً أو يتحول إلى مريض نفسي يفجر نفسه والمجتمع!

هل في قولي مبالغة؟ نعم. لكنها مبالغة تقول للصدق خذني.