عبد العزيز بن عثمان بن صقر

بعد أن كشفت المملكة مؤخرا عن ضبط خلية تجسسية تعمل لحساب إيران تضم 16 مواطناً سعوديا، وإيراني، ولبناني، قد يسأل البعض - وبصفة مشروعة - عن كيفية تمكن أطراف أجنبية من التغلغل والوصول إلى تجنيد بعض مواطني المملكة وإغرائهم بالعمل لخدمة مصالح وأهداف تخريبية وتجسسية لهذا الطرف أو ذاك.

وفي محاولة الإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن تجنيد عناصر من المواطنين لخدمة مصالح دول أخرى ليس حالة فريدة أو غريبة من حيث المبدأ، فالنشاطات التجسسية تعد واحدة من أقدم النشاطات التي مارسها الإنسان، وجمع المعلومات خاصة السرية حول قضايا أو أشخاص محددين هو جزء من الطبيعة الإنسانية، حيث قامت نشاطات التجسس بين الدول على استغلال الرغبة البشرية في جمع المعلومات، وتسخيرها لخدمة المصالح العليا لدولة محددة، لذا فإن معظم دول العالم معرضة بدرجات مختلفة لنشاطات تجسسية أو تخريبية من حين إلى آخر، ومصدرها دول أخرى أو حتى مجموعات منظمة.

وعملية توريط مواطني دولة في النشاطات التجسسية أو التخريبية، هي عملية تستوجب وجود آلية دقيقة للبحث عن الأشخاص المحتمل تجنيدهم، فمن الوارد أن تستهدف أجهزة المخابرات الإيرانية المملكة وتضعها في قائمة نشاطاتها التجسسية، ومن الضروري أن تكون قامت بالبحث عن تجنيد العناصر التي من الممكن أن تكون جزءا من شبكة التجسس، ومن الممارسات الإيرانية في هذا المجال نكتشف أن التجنيد العقائدي يعد أهم ورقة تستخدمها أجهزة المخابرات الإيرانية في جذب الأشخاص لخدمة مصالحها، فورقة الولاء الطائفي ولغة الانتماء العقائدي وظفتهما القيادة الإيرانية بشكل واسع بكونهما الورقتين السحريتين اللتين تمكنت عبرهما من تأسيس مواقع النفوذ الإيراني في عدد كبير من دول العالم، وخصوصا دول العالم العربي.

وتقوم الخطوة الأولى في جهود المخابرات الإيرانية في عمليات تجنيد عملاء لها على القدرة في إقناع الشخص المستهدف بقصد إعادة ترتيب ولاءاته، وإقناعه بالتخلي عن الولاء الوطني أو الولاء القومي والتشبث بالولاء الطائفي، فالرابط الوحيد الذي يربط مثلا شخصا سعوديا - عربيا بإيران هو الانتماء الطائفي عند البعض، وتغليب هذا الولاء على جميع الولاءات الأخرى، والحمد لله أن هذا الصنف من الأشخاص الذين يقدمون الانتماء الطائفي على الانتماء الوطني أو القومي، يعدون قلة قليلة، ومن يقدم ولاءه الطائفي على ولائه الوطني والقومي يمثل حالة نادرة جدا، فولاء المواطن السعودي لوطنه من الثوابت الراسخة عند جميع أبناء الوطن، ومن خرج عن هذه الثوابت هم فئة قليلة من ضعاف النفوس الذين يمكن شراؤهم بثمن بخس من أجل خيانة الوطن والتعامل مع الأطراف الأجنبية.

وبعد التيقن من أن الشخص المستهدف يسيطر عليه الوازع الطائفي، ويفتقد الحس الوطني - القومي. يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية من عملية التجنيد، وهي تقيم استعداد الشخص للتعاون الفعلي، لذا يبحث جهاز المخابرات ضمن الفئة السابقة عن الأفراد الذين يبدون استعدادا للتعاون، إما سعيا للحصول على المال أو المنافع الدنيوية الأخرى، أو للحصول على امتيازات محددة، أو بدافع العصبية والتعصب والانسلاخ من المجتمع، أو بدوافع التعامل مع مأزق شخصي كالإدمان على المخدرات أو المسكرات، وغيرها من المشكلات الشخصية، ومن هنا يتم الانتقال إلى المرحلة الثالثة، وهي عملية تقيم المنافع التي يمكن جنيها من تجنيد هؤلاء الأشخاص، وذلك بناء على موقعهم الوظيفي، وعلى قدراتهم في جمع المعلومات ذات الطبيعة الخاصة أو السرية، وهنا ليس بالضرورة أن يكون موقع الشخص الوظيفي في مراكز أمنية أو عسكرية عليا، أو يكون موقعه ذا أهمية في صناعة القرار السياسي، فالمعلومات ذات البعد الاقتصادي والمالي أو الاجتماعي لها قيمة كبيرة عند الطرف الخارجي، إلى جانب من يشغل الوظائف ذات الطبيعة الخاصة التي تسمح للشخص بالتواصل مع عدد كبير من الناس المطلعين على الأمور، أو حتى التواصل مع جمهور العامة، حيث يعد هذا الصنف من الأشخاص مصدرا مهما للمعلومات، وحين تتوافر الشروط التي تم بموجبها تحديد شخص ما بكونه راغبا في التعاون وكونه يملك قيمة مخابراتية محتملة يتخذ القرار بوجوب تجنيده كعميل في خلايا التجسس أو خلايا التخريب.

ويمكن الاستدلال على أسلوب عمل جهاز المخابرات الإيراني في دول الخليج العربي مما برز من التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية والقضائية في دولة الكويت حول خلية التجسس التابعة لجهاز المخابرات الإيرانية والتي تم اكتشافها من قبل أجهزة الأمن الكويتية خلال شهر مايو (أيار) 2010م. فالخلية الكويتية تتكون في غالبيتها من مواطني دولة الكويت ممن غلبوا الولاء الطائفي على الولاء الوطني والقومي، وأشارت التحقيقات إلى أن المشرفين على الخلية التجسسية هم عناصر ليست وطنية. فكما هي الحالة في الخلية التي تم اكتشافها في المملكة ضمت الخلية الكويتية مواطنا لبنانيا يبدو أنه العنصر الأساسي الذي كان يتولى مهمة إدارة الخلية والإشراف على نشاطاتها، ويعمل بصفة ضابط ارتباط بين عناصر الخلية داخل الكويت وأجهزة المخابرات الإيرانية في طهران، إلى جانب أعضاء مساعدين من المواطنين الإيرانيين القاطنين في دولة الكويت. ولكن مهمة جمع المعلومات أو سرقتها كانت تقع على عاتق المواطنين الكويتيين من أعضاء الخلية. وقد تكررت هذه التجربة بشكل مشابه في خلية التجسس والتخريب التي أعلنت مملكة البحرين عن اكتشافها العام الماضي. وجاءت التحقيقات السعودية لتعلن عن نتائج مشابهة. فالخلية التجسسية التي تم الكشف عنها من قبل السلطات الأمنية في المملكة تحتوي على هيكلية مشابهة، أي التركيبة الثلاثية التي تتضمن أعضاء من مواطني الدولة، إلى جانب عنصر عربي مرتبط بجهاز المخابرات الإيرانية ويقوم بمهمة ضابط الارتباط، بجانب عناصر إيرانية على الأغلب توفر الدعم لضابط الارتباط حامل الجنسية العربية.

وهنا لا بد من مباركة جهود أجهزة الأمن الخليجية التي تمكنت، عبر تعاونها الوثيق، من الكشف عن خلايا التجسس والتخريب التي تحاول الأجهزة المخابراتية الإيرانية زرعها على تراب الوطن. والكشف عن حقيقة أن دولنا الخليجية مستهدفة من قبل الأطراف الخارجية في نشاطات التجسس والتخريب، مما يضع المواطن الخليجي أمام مسؤولية توفير الدعم للأجهزة الأمنية في مهمة مكافحة النشاطات الهدامة التي تستهدف أمن واستقرار الدولة والمجتمع، وتحاول زرع بذور الفرقة والصراع لخدمة مصالح الأطراف الخارجية، فمهمة مكافحة التجسس والتخريب الخارجي لا يمكن أن تقتصر على أجهزة الدولة الأمنية، والتي تخضع لضغوط متعددة وتتعامل مع تهديدات ومخاطر متشعبة المصادر. تعاون المواطن في مكافحة النشاطات التجسسية والتخريبية الخارجية لا يقل أهمية عن تعاون المواطن في مهمة مكافحة الإرهاب الداخلي أو الجرائم الجنائية، فجميع هذه النشاطات تهدد أمن واستقرار الدولة والمجتمع بشكل متواز، وتشكل أخطارا ظاهرة أو كامنة على مسيرة تطور الدولة واستقلالها وسيادتها.