أمجد ناصر
ليست الصوفية الاسلامية هروباً، تاماً، من الواقع الى جنائن الغيب والمطلق، أو في الأقل، ليست كلها كذلك. الصوفية هي، أصلا، نوع من المقاومة. مقاومة تبدأ بالذات، وهذا في الاسلام هو 'الجهاد الأكبر'. أن تقهر الشرير، المتسلّط، المستحوذ، النَهِم، المستكّبر، الأنانيّ في نفسك فأنت تقهره، كمحصلة، في الآخرين. فمن أنت إن لم تكن أنا ومن أنا إن لم أكن أنت. 'الآخرون يكشفوننا، أو يظهرون ذواتنا'. إنهم نحن. يقول جلال الدين الرومي، مثلما قال شاعر، أو صوفي، مجهول عندما أطلَّ على أرض المرايا المتقابلة وتنهد قائلاً، مخاطبا نفسه أو مخطاباً إيانا: ' يا ابن النطفة والعلقة، يا من ولدت بين ماء ودم، هل وطدت نفسك على يوم كهذا؟ يا ابن الريح والبذرة، أظنك لم تفعل. أعرفُ تلك الأصوات الغامضة التي تدوّم فيك. أعرفها فأنا مثلك. لعلني أنت ولا تدري. لن تتحرر من تلك الأصوات لأنك لست وحدك في تلك الأرض التي يتردد بين جنباتها ألف صدى لصوت واحد أو ألف صوت لصدى واحد. إنها تسكنك. أنظر جيداً سترى وجهك في مرايا الحجر والماء وسترى ألف وجه تشبه وجهك، وألف دقة قلب تشبه دقة قلبك'. ليس الشاعر، أو الشقيُّ الذي كتب هذه الكلمات مجهولاً تماماً، لا بد أن هناك من يعرفه، لكنني نسيت من يكون، فقد دوّنت تلك الكلمات في دفتر قديم ونسيت أن أدوِّن اسم صاحبها. ربما ليس مهما من يكون صاحبها ما دامت الكلمات نفسها موجودة وما دام هناك من قام بتدوينها. ربما فعل آخرون ذلك فصارت كلماته مضاعفة كصورة في عشرين مرآة متقابلة. أرجِّح أن تكون تلك الكلمات لجلال الدين الرومي. وهو ما ترغب هذه السطور في التوقف عنده. قلت إنَّ الصوفية ليست هروباً، ليست استسلاماً وطأطأة رأس وأسمالا بالية وزوايا منقطعة عن أنين البشر. وليس صحيحاً كما يقول الذين لا يرون إلا لمعان السيف طريقاً في الحفاظ على 'الأنا' المختارة من 'انحلال' الآخر، إن 'الغرب' هو الذي يروج للصوفية والصوفيين في هذه اللحظة الراعفة كي يأمن 'شرَّ سيفنا'، فأين هو سيفنا أصلا؟ السيف الوحيد الذي نراه، اليوم، هو الذي نعمل فيه في رقاب بعضنا ولكننا لا نرى سيفاً مسلطاً على عدو.
' ' '
كنت أقرأ في المجلد السادس من 'مثنوي' جلال الدين الرومي (ترجمة المرحوم ابراهيم الدسوقي شتا التي تفتقد الى الشعرية المفترضة في النص الاصلي) فوجدت المرحوم شتا يمهد للكتاب بدراسة لما سماه 'ظاهرة الطغيان' عند الرومي من خلال شخصية 'الفرعون' وهو الرمز الأكبر للطغيان في عرف الرومي، وربما في عرف الأدبيات الاسلامية.
لا يحدد القرآن، وقبله التوراة، من هو الفرعون الذي ارتبط ذكره بالنبي موسى، ولكن، من الواضح، أن لقب الملوك المصريين هذا (يرعو، وتعني البيت العظيم، حسب قاموس المعاني) ذهب مثلا، في العربية على الأقل، للطغيان، فلم يعد يعطف، أينما ورد، على ملوك مصر القدماء بل صار يعني الطاغية أو المستبد بصرف النظر عن هويته وزمنه.
عاش الرومي صاحب 'المثنوي' قريباً، زمنياً وجغرافياً، من هبوب المغول على أرض الاسلام، وفي ذاكرته كطفل طاغية محلي هو خوارزم شاه الذي نكل بوالده العلامة بهاء الدين ولد الملقب بـ 'سلطان العارفين' رغم علاقة المصاهرة بينهما. للرومي، أو 'مولانا'، حسب تعبير مريديه، قول فصل في 'الفرعون'. ليس فرعون موسى ولكن كل فرعون. فرعون عصره وفراعين عصرنا. يقول الرومي: 'ويكون القط شرطيا لكل من فيه طبيعة الفئران'. ثم يقول: 'لأقصر في القول، فإن بسطت في هذا الحديث، وقدمت شرحا عميقا، فسوف يغضب الأمير'. الفرعون ثيمة متكررة في 'المثنوي'. والفرعون، كما أسلفنا، هو السلطة في أي شكل ولبوس جاءت: سلطة الامير، الشرطة، المال، الجاه، الطواغيت. هناك 'فرعون' الخارج (= السلطة) وهناك 'فرعون' الداخل (= النفس). في 'المثنوي' تشريح للفرعون الذي هو الطاغية أو الحاكم المطلق. وهو تشخيص كأنه يخاطب زماننا بما يحفل فيه من طواغيت تكالبت على الخلق، بعضها سقط وبعضها الآخر يغرق بلاده ببحر من الدم قبل سقوطه الحتمي.
فـالفرعون ـ الطاغية جبار في الظاهر، رعديد في الباطن، يقطع الرؤوس ولكنه، بتعبير، الرومي: يخاف من دودة!
إنه لا يأمن لأحد. لا قوته ولا جاهه بقادرين على رد الهلوسات التي تنتابه، في كوابيس وحدته، من ثورة الناس عليه، أو من تآمر المحيطين بعرشه. فها هو يقول في 'المثنوي': ' الدور دوري، وكوسات السلطنة (الصنوج) تدق لي، ومع ذلك انخسف قمري، والناس يدقون على الطسوت'. انه يسمع، في منامه، ويرى في وجوه حاشيته المداهنة صوت قرع 'الطسوت'. الفرعون، عند الرومي، هو، بالضبط، الجنرال في متاهته، والبطريرك في خريفه، والطاغية العربي في نزعه الأخير.
هناك اكثر من فرعون عربي يقطع الرؤوس ولكنه يخاف من دودة.. هل من داع لذكر الاسماء؟
لا أظن.
- آخر تحديث :
التعليقات