محمد بن عبد اللطيف ال الشيخ

القذافي وغرائب أحكامه، ومنطقه وتصرفاته، هو يعبّر عن التسلُّط والجبروت في الفكر الشرقي، وتلذُّذ من يتولّون السلطات بقتل وسحل الناس وظلمهم. ومن يقرأ التاريخ سيجد آلاف (القذاذفة) يملؤون كتب تاريخ الشرق.

السلطان (محمد شاه) أبو مجاهد فخر الدين محمد بن تغلق شاه تركي الدهلوي. وُلد ونشأ بأرض الهند وتولّى السلطنة في منتصف القرن السابع. يقول المؤرّخ عبدالحي الحسيني: كان هذا الملك من عجائب الزمن وصواغ الدهر لم ير مثله في الملوك والسلاطين في بذل الأموال الطائلة وسفك الدماء المعصومة، وفتح الفتوحات الكثيرة؛ أي أنه رجل غريب يجمع بين الشيء ونقيضه..

يقال إنه لما تولّى هذا السلطان سلطنته أراد أن يستخدم الشيخ شهاب الدين الجامي في بعض الأعمال، فامتنع الشيخ من العمل طلباً للسلامة والعفاف، لكن السلطان شافهه في مجلسه العام، فأظهر الإباء، والامتناع، فغضب السلطان من ذلك، وأمر شيخاً آخر اسمه الشيخ ضياء الدين السمناني، أن ينتف لحيته، فأبى ضياء الدين، فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما، فنُتِفَت. ثم نفي شهاب الدين إلى بلاد (آباد) فأقام بها سبعة أعوام، ثم بعث إليه السلطان، فأتى به وأكرمه، وعظمه، وجعله على ديوان العمال، وبقي مدة على ذلك. ثم كان السلطان مقيماً في مدينة (دلهي) ثم انتقل منها وبنى قصراً كبيراً على نهر (كنك) وأمر الناس بالبناء هناك وطلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة في دلهي، فأذن له ثم بعد مدة طلب الإعفاء وترك العمل، لما ظهر له من المظالم التي ارتكبها السلطان، فبعث إليه السلطان يأمره بالحضور إليه فامتنع من إتيانه فبعث إليه أحد خواصه، فتلطف له في القول وحذره بطش السلطان فقال الشيخ: لا أخدم ظالماً أبداً فعاد المبعوث فأخبر الملك بقول الشيخ فأمر الملك جنوده فأتوا بالشيخ بالقوة فلما حضر بين يديه قال له الملك: أنت القائل إني ظالم؟. فقال الشيخ: نعم أنت ظالم. فكبل بأربعة قيود وغُلت يده وسجن أربعة عشر يوماً لا يسقى ولا يُطعم، وفي كل يوم يؤتى به إلى المشورة، وجمع من الفقهاء، ويقولون: أرجع عن قولك؟، فيقول: لا أرجع عنه. فلما كان في اليوم الرابع عشر أمر السلطان أن يُبعث إليه بطعام فأبى أن يأكل وقال: قد رفعَ رزقي من الأرض، فأرغموه على الطعام بفتح فمه وفكيه وحلّوا الطعام بالماء، وسقوه ذلك، وفي ذلك اليوم أتي به إلى دار القاضي وفيه جمع من الفقهاء والوجهاء وكان متعباً جداً قد ذبل جسمه، فوعظوه وطلبوا منه أن يرجع عن قوله فأبى، فأمر السلطان بقتله فضربت عنقه.

وكان يحضر مجلس هذا السلطان الشيخ عماد الدين الحنفي الغوري، فقال له السلطان يوماً من الأيام: إنّ الفيوض الإلهية لم تنقطع حتى اليوم فإن ادعى أحد الرسالة وصدرت عنه المعجزات فهل نصدقه أم لا؟. فغضب الشيخ عماد الدين غضباً شديداً فلم يملك نفسه فقال بالفارسية: (كه مخور)، أي كل العذرة - (العذرة البراز) - فغضب السلطان وأمر أن يُذبح وأن يُخرج لسانه عن فمه فامتثلوا الأمر، فقتل.

وفي زمن ولاية السلطان محمد شاه خرج عليه أمير من الأمراء فبايعه بعض الناس فنُقل إلى السلطان محمد أنّ هذا الخارج عن سلطته ذُكرَ في مجلس الشيخ شمس الدين فأثنى عليه وقال: إنه يصلحُ للمُلك. فبعث السلطان بعض جنوده إلى الشيخ فقيّدوه وقيّدوا أولاده وأمر بهم فسجنوا جميعاً وطالت مدة سجنهم ثم مرض الشيخ وهو في السجن ثم مات فيه. وبعد موت الشيخ أمر السلطان بإخراج أولاده من السجن وقال: لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون. فقالوا: وما فعلنا، فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم.

أما قصته مع الشيخ عفيف الدين الكاشاني. فقد أصاب بلاد الهند قحط زمن السلطان محمد شاه تغلق فأمر بحفر آبار خارج دار الملك وأن يزرع هناك زرع وأعطى الناس البذر وما يلزم للزراعة من النفقة وكلفهم زرع ذلك فبلغ ذلك الشيخ عفيف الدين، فانتقد تصرف السلطان، وقال: هذا الزرع لا يحصل المراد منه. فوشيَ به إلى السلطان، فأمر بسجنه وقال: لأي شيءٍ تدخل نفسك في أمور المُلك. وبعد مدة أطلق صراحة فذهب الشيخ إلى داره فلقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء فقالا له: الحمد لله على خلاصك. فقال الشيخ عفيف الدين: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين؛ وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ السلطان ذلك، فأمر بإحضار الثلاثة بين يديه فقال اذهبوا بهذا، يعني الشيخ عفيف الدين، واضربوا عنقه حمائل (قطع الرأس مع الذراع وبعض الصدر)، وضربوا أعناق الآخرين وقتلوا جميعاً. هذا هو التاريخ مع الظلم والاستبداد أيها السادة.

(معلومات المقال من كتاب (الممتحنون من علماء الإسلام). تأليف د. سليمان بن محمد العثيم. الناشر: دار القاسم)