محمد السعيد إدريس

ما حدث في ليبيا وما يحدث في سوريا يكشف بالدليل القاطع إلي أي مدي وصل عبث القوي الدولية والإقليمية بمصائر الثورات العربيةrlm;.rlm;

فمنذ أشهر قليلة مضت فجر سيلفيو بيرلسكوني رئيس الحكومة الإيطالية السابق قنبلة من العيار الثقيل عندما أكد أن ما حدث في ليبيا جري وفق قرار للحكومة الفرنسية بالذهاب إلي هناك, والتدخل في نزاع داخلي وتقديمه أمام العالم في إطار ثورة. اتهامات برلسكوني لفرنسا ليست شهادة في حق النظام الليبي أو انحياز ضد ثوار ليبيا ولكن يمكن فهمها علي أنها أحد مؤشرات الصراع علي النفوذ في ليبيا بين إيطاليا وفرنسا, وهو نفسه الصراع الذي يحكم الموقفين الأمريكي والروسي من الثورة السورية. فالتدخل الأمريكي الروسي الراهن الذي استقر علي دعوة مشتركة لعقد مؤتمر دولي حول سوريا يعقد نهاية هذا الشهر أو أوائل الشهر المقبل بين ممثلين للنظام السوري والمعارضة علي قاعدة ما يعرف بـ خطة جنيف2012 وتنص علي انتقال سياسي عبر حكومة انتقالية ذات فعالية ولكن دون تحديد أي دور سيكون للرئيس السوري في هذه العملية يعد مثالا آخر بارزا وفجا علي هذا العبث.
الآن تتدخل واشنطن وموسكو لفرض الحل السياسي للأزمة السورية(!). لم يحدث هذا التدخل بهذا الشكل علي مدي أكثر من عامين ونصفه, ولم تسع واشنطن طيلة العام الماضي لفرض خطة أو أجندة جنيف, لأن تدمير سوريا,( تدمير النظام, تدمير الجيش, تدمير المعارضة), واستنزاف قدرات كل الأطراف المتورطة في الأزمة السورية كلها, كانت علي ما يبدو تصب في مصلحة إسرائيل التي تحلم باختفاء أي مصدر للتهديد علي حدودها من كافة الاتجاهات, سواء من الشمال ناحية سوريا ولبنان, أو من الشرق ناحية الأردن ومن خلفه العراق, أو من الجنوب, ناحية مصر.
هل ندرك مغزي كل هذا علي ضوء ما يدبر لسيناء من مؤامرات تستهدف تحويلها إلي منطقة عازلة بين مصر والكيان الصهيوني عبر سلسلة من الأحداث التي تعطي لهذا الكيان فرصة التحرك عالميا للترويج لمقولة أن سيناء تحولت إلي مأوي للإرهاب, وأنها أضحت مصدرا للتهديد, وأن الحل لا يخرج عن أحد أمرين, الأول أن يكون لإسرائيل الحق في السيطرة علي شريط عازل من أرض سيناء يمتد علي طول الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة, والثاني وجود قوات دولية عازلة علي طول هذه الحدود, كما هو الحال في جنوب لبنان مع إعطاء إسرائيل الحق في التدخل وملاحقة أي مصدر للتهديد داخل سيناء.
وهل ندرك مغزي كل هذا ونحن نتجه إلي مفترق طرق في علاقاتنا السياسية داخليا, ونحن نتوجه نحو وضع استقطابي سياسي غير مسبوق يكاد يصيب البلد بحالة من الشلل والانهيار الأمني والاقتصادي, الذي يمكن أن يتطور, لا قدر الله, إلي مواجهات واقتتال داخلي يمكن أن يدفع بنا نحو مستنقع الحرب الأهلية, الذي ينتظره كثيرون للإجهاز علي ما بقي من الحد الأدني من مصادر القوة العربية.
الأمر المؤكد, أن أحدا في الخارج لن يتدخل لمنع أي مكروه يحدث لمصر. فالأشقاء العرب, يراقبون كل ما يحدث في مصر, وعيونهم نحو واشنطن, لا يغامر أحد بتقديم الدعم المادي دون ضوء أخضر أمريكي, وواشنطن تراقب هي الأخري كل كبيرة وصغيرة وتتحكم في قرار صندوق النقد الدولي وترفض أن تقوم بأي دور يؤدي إلي تحقيق استقرار حقيقي قائم علي مبدأ الشراكة الوطنية الجامعة. كل ما يريده الأمريكيون هو اعتماد وكلاء محليين يخدمون مصالحهم ويقومون بالأدوار التي تحقق وتحفظ هذه المصالح وفي مقدمتها وجود وبقاء وأمن الكيان الصهيوني. هم يريدون حلفاء ووكلاء أقوياء أيا كانت انتماءاتهم أو معتقداتهم, ومستعدون للاستغناء عن أي وكيل أو حليف إذا تحول إلي عبء بالنسبة لهم أو إذا ظهر من هو أفضل منه في أداء الخدمة المطلوبة ويحبذ أن يكون أقل تكلفة. وعندما وقفوا بجانب ثورة25 يناير لم يكن ذلك كرها في نظام مبارك ولكن تحسبا لمخاطر قد تتهدد مصالحهم لذلك دعموا خيار أن يتولي المجلس العسكري السلطة لمرحلة انتقالية, بعد أن أدركوا أن البديل لنظام مبارك بات ممكن التعويل عليه وهو تيار الإسلام السياسي المعتدل وخاصة جماعة الإخوان المسلمين وما ذكره جون كيري وزير الخارجية الأمريكي في لقائه مع بعض رموز المعارضة المصرية يؤكد ذلك. فقد كشف أن الولايات المتحدة تدعم حكم الإخوان المسلمين ليس حبا فيهم ولكن لأن البديل المدني الديمقراطي غير مؤهل لتحمل أعباء الحكم ولا يشكل بديلا حقيقيا الآن.
يبقي السؤال, وأين المخرج؟
والإجابة هي نحن المخرج, نحن كل القوي الوطنية معنيون بذلك, خصوصا بعد أن حسم الجيش موقفه صراحة علي لسان قائده العام الفريق أول عبد الفتاح السياسي وأكد عدم تدخل الجيش في السياسة, وعدم نزول قوات الجيش إلي الشارع مرة أخري, وأعلن خلال تفقده كفاءة تشكيلات المدرعات يوم11 مايو الحالي أن علي المصريين الوقوف أمام صناديق الاقتراع15 ساعة علي أن يعودوا بالزمن40 عاما إلي الوراء.
المعني واضح جدا, وهو أن الجيش كـ بديل من وجهة نظر القوي المدنية وقطاعات شعبية واسعة للخلاص من حكم الإخوان لم يعد موجودا, وإذا كان بعض الإخوان, بضيق أفق شديد قد أسعدهم وأراحهم كلام الفريق أول السيسي إما بفهم كلامه علي أنه بمثابة انحياز للإخوان, وإما عن اعتقاد خاطئ بأنه ليس في مصر بديل لهم, فإن المعني الحقيقي مختلف تماما عن أي من الفهمين, فالجيش يريد أن تبادر كل القوي السياسية بالعودة مجددا, ولو اضطرارا, إلي خيار التوافق الوطني وثقافة العيش المشترك, وأن هذه القوي هي المسئولة دون غيرها عن ابتداع النموذج المصري الخاص للسياسة والحكم, النموذج الذي يعبر عن جوهر الشخصية الوطنية المصرية والآمال التي ظل الشعب يحلم بها علي مدي عقود مضت وتصور أنه بالثورة سيكون قادرا علي تحقيقها, لأن البديل مرعب في نتائجه.
وإذا كانت الفجوة قد اتسعت بما فيه الكفاية بين الحكم والمعارضة وأصبح متعذرا الالتقاء المباشر بين الطرفين علي مشروع وطني للإنقاذ ملزم للجميع والتخلي عن استئثار طرف دون غيره بالسلطة فيمكن اللجوء إلي مستجدات التجربة التركية في التعامل مع المشكلة الكردية حيث شكلوا لجنة محايدة أخذت اسم لجنة الحكماء من كافة أطياف المجتمع للحوار ليس فقط مع كل القوي السياسية, بل ولتقصي أراء المواطنين في كافة المحافظات للوصول إلي ما يشبه أسس الحل الوطني لتلك المشكلة.
نحن نستطيع أن نأخذ بمثل هذا الخيار أو بغيره, المهم أن نبدأ, وبنوايا صادقة لإنقاذ بلدنا, لأن أحدا لن ينتظرنا حتي نفرغ من صراعاتنا.