أمجد ناصر


أغرب الميتات رأيتها، قبل أيام، على الشاشة. الفيلم قديم. لم أشاهده في وقته، ولولا بثَّه على شاشة التلفزيون لربما ما شاهدته، لأننا لا نذهب إلى التلفزيون. هو الذي يثرثر في بيوتنا بلا انقطاع. في الفيلم ممثلٌ يموتُ، (فعلاً)، يمثِّلُ دور مغنٍ يحيا بسرعة ويموت ببطء أمام جمهوره. الاثنان كانا يموتان معاً على الشاشة. المغني المستعاد من موته والممثل نزيل جناح السرطان. لو لم نكن نعلم أنهم كانوا يأخذونه من سرير الموت إلى موقع التصوير لما كانت هناك قصة تُروى. فالممثل يمثِّل. هذا ما يفعله. يمثل الحب والكره والانتقام والعدل والجور، يمثِّل من يموت ويمثِّل من يحيا. ولكن أن يكون الممثل يمثل دور مطرب يموت والسرطان ينشب آخر مخلب قاتل في رئتيه فذلك تمثيل على الموت. لكن الموت لا يُمَثَّل عليه، لا يمكن تضليله بقناع أو أغراؤه بكأس.
مات الممثل الذي كان يمثل دور مغنٍ يموت قبل أن ينتهي الفيلم. لكن الفيلم استمر. الرقصة تواصلت، بأقدامٍ طازجة، في مكان آخر، مثل تلك التي رأيناها على الشاشة أيضاً. يسقط الراقصون تباعاً لكن الرقصة لا تتوقف. فالرقصة هي مربط الفرس وليس الراقصون الذين يخرجون لكي يدخل راقصون جدد.
هناك فيلم يدعى lsquo;رجل ميت يمشيrsquo;، لكن الممثل لم يمت. كان يمثل دور رجل ميت ولم يكن هو الرجل الميت، مثلما مات ممثل دور المغني.


دائماً كان هناك موت. هناك مئات الآلاف يموتون وأنا أكتب هذه الكلمات. هناك مثلهم، أو أكثر، سينزلون إلى حلبة الرقص ولن تكتب عنهم قصة أو ينقل خبر عاجل. دائما سيكون هناك موت لأن من طبيعة الانسان أن يموت. تلك هي ذروة الرقصة. أتذكر بيتا لصاحب lsquo;الكتابrsquo; يقول: lsquo;لأنني أمشي أدركني نعشي. أيامنا هذه حافلة بموت كثير. موت قريبين وموت بعيدين. موت شهيرين وموت مغمورين. ننتهي من عزاء لننصب خيمة عزاء جديدة. كثير هذا الموت. لكن الموت هو، لأمر ما، موت الذين نعرفهم. موت الآخرين أقل موتاً بالنسبة لنا. أحدهم كتب مقالاً عن روائي شاب راحل أنصت لضجيج الحياة في الأحياء الشعبية وتعلق بألف ليلة وليلة ومات بلا سبب واضح. المقال ليس عن الكاتب الشاب الذي مات بلا سبب واضح بل عن مكتبته. مات الروائي صغيراً ولم يكن هناك من يتوقع موته السريع. كان يكتب كثيراً في الآونة الأخيرة. الغريب أنه كان يفكِّر في مكتبته بعد موته ولم يكن الموت أنذره، بعدُ، بأي شيء. تساءل عن مصير كتب ابتاعها أو أهديت إليه من كتاب وشعراء. أتذكر مقاله الذي يفكِّر في المكتبة أكثر مما يفكِّر في نفسه، لأنني أنا من نشره. رأى الروائي نفسه ميتاً. قال: ماذا سيفعل أبنائي بمكتبتي؟ هل يحافظون عليها بعد موتي أم يعتبرونها عبئاً زائداً في البيت؟ مكتبتي تعنيني وحدي، جمعتُ كتبها كتابا كتابا، إنها جزء مني. فهل يبقى هذا الجزء حياً بعدي؟ لم يكن الروائي الشاب يموت عندما كتب وصية المكتبة، كان لا يزال يكتب ويعيش ويرقص مع الأمل بقمصان مشجَّرة. لا أعرف ما الذي حلَّ بمكتبته بعد موته. لم أسأل. المكتبة مسألة شخصية. إنها صاحب المكتبة، فحتى لو اهتم ابناؤه بالكتب فليس ضروريا أن يعتنوا بالكتب نفسها التي كانت تعني والدهم. ستكون هناك كتب جديدة لزمن جديد. سيكون هناك مؤلفون جدد يعيدون، من حيث لا يحسبون، موالاً قديماً. عندما كنا شباناً ظننا أننا نكتب ما لم يُكتب من قبلُ ولكننا اكتشفنا أن هناك من كتب، تقريباً، مثلما كتبنا. ففي الكتابة لا نخترع البارود. لا نصل الى مياه عذراء لم يشرب منها قبلنا شارب. لن يعرف ذلك الشعراء الشبان اليوم. لكنهم سيعرفون ذلك لاحقاً. سيرون كيف مشوا على أرض مشى عليها قبلهم كثيرون. لكنني أتحدث هنا عن شيء آخر.


عجيب أن يموت الانسان وتبقى بعده الكتب، الأفلام، الأشرطة الموسيقية، صوته على مسجل آلي في هاتف، صورته المعلقة على جدار. الموت نسيان أو ما يشبهه. من قبل كانت الكلمة، الرسم، النحت، ذاكرة الانسان الممتدة. لكنها ذاكرة خاصة، غالباً، بالانسان الكبير. اليوم تقاوم التكنولوجيا هذا النسيان. تصنع خلوداً صغيراً للانسان الصغير. هناك مدونات خلود عائلية تقدمها التكنولوجيا (صور، اشرطة فيديو، انترنت إلخ) لكن لا أحد يدري إلى متى سيتم الاحتفاظ بها، بل من سيفعل ذلك؟

حاشية


(إلى رولى الأيوبي)


عندما لا تسمع صوتاً للذين اعتبرتهم، ذات يوم، أصحاباً عُدْ إلى مفكرتك وأرفع سماعة الهاتف واتصل.
قد لا يكون حدث لهم مكروه. ممكنٌ أن تكون الحياة قد جرفتهم، مثلك، في تيارها الذي لا يتوقف ولكن قد يكون حدث العكس.
فعندما لا تسمع، طويلاً، صوت من اعتدت أن تسمع أصواتهم فهذا نذير سوء. عندما لا يصلك عنهم خبر من أصدقاء مشتركين وتمرُّ الأيام من دون أن يحدث تقاطعٌ بينك وبينهم فعليك أن تتسلح بأسوأ شكوكك.
لم أفعل، للأسف، شيئاً من ذلك حتى قرأت قبل أيام هذا الخبر غير العاجل، الخبر الذي لا يهم، على الأغلب، إلا الذين عرفوا صوتها، ورأوا ابتسامتها المقبلة على الدنيا فصعقوا للنبأ: رحيل الإعلامية رولى الأيوبي بعد صراع مع المرض!
خبران سيئان كنت في غفلة عنهما: مرضها العضال، ورحيلها بعد رحلة قصيرة، ولكن مكتظة، مع الألم والأمل. هذا هو تيار الحياة الذي جرفني بعيداً عن ذلك الوجه الذي ينطبع، بلا جهد أو تكلُّف، في أعماق من يراه منذ اللقاء الأول. ما أزعجني أكثر من أي شيء آخر أنني طلبت منها، في أحد اللقاءات السريعة في أروقة بي بي سي حيث تعمل، أن تحضر لي بضع نسخ من روايتي. كانت ستسافر بعد أيام الى عاصمة بلادها وسألتني إن كنت أريد شيئاً من هناك. عادت بعد وقت وأحضرت لي نسخا من الرواية. سألتها إن كانت قد قرأتها فقالت: بلى، قرأتها.
-ماذا لفت نظرك فيها؟
-اسم البطلة!
- رولى!
- نعم.
- ولكنها ليست أنت!
- طبعاً، إنها من lsquo;الحاميةrsquo; وأنا من lsquo;المدينة التي تطل على البحرrsquo;، لكن أعجبني تفسيرك للاسم، أو اختراعك له لأنني لم أسمعه من قبل.
- ريغبولا، سيدة المدينة.


hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;hellip;
حدث هذا الحوار السريع، والأخير، تحت ظلال السرطان الخفيِّة. فلم أسمع بمرضها إلا بعدما قرأت خبر رحيلها.
هل يضيف الى ذكراها العطرة القول إنها ابنة القائد اللبناني الشهيد أحمد المير (أبو حسن)؟
ربما.
فمن عرفوها أكثر مني قالوا إنها مشت على دربه ولكن بطريقتها الخاصة.