فهمي هويدي
لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن نأخذ على محمل الجد أرقام التوقيعات المليونية التي يتحدث عنها معارضو الرئيس محمد مرسي ومؤيدوه، لكني لا أخفي أنني استهولت ادعاءات الطرفين، سواء منظمي حملة تمرد الذين أعلنوا عن أنهم جمعوا أكثر من 22 مليون استمارة طالبت الرئيس بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو المؤيدين القائمين على حملة تجرد الذين قالوا إنهم وصلوا إلى الرقم 22 مليونا ويستهدفون جمع توقيعات من 33 مليون شخص. كما أنني استغربت ما قاله أحد فقهاء التلفزيون حين سئل عن كيفية التثبت من صحة رقم الـ22 مليون توقيع الذي أعلنه منظمو حملة تمرد، فكان رده أن البيّنة على من ادعى. في إشارة إلى أنه يتعين على السائل أن يتولى بنفسه عد الأوراق لكي يتأكد من أن الرقم المعلن صحيح أو غير صحيح. ثم إنني لاحظت شيئا آخر هو أننا سمعنا رقما إجماليا لم يحدد أعداد الموقعين في كل محافظة بمدنها المختلفة، لكي نطمئن إلى أن المجموع هو حقا 22 أو 33 مليونا، علما بأننا لم نر أمس تلك الملايين المهولة من البشر الموقعين سواء في جانب المعارضين أو الموالين. من جانبي حاولت أن أتحقق من صحة الأرقام المعلنة، إذ فضلا عن الشكوك التي أشرت إليها توا، فقد ثارت لدي أسئلة كثيرة حول الأعداد المطلوبة لجمع 22 مليون توقيع مثلا، والمدة التي تستغرقها العملية والإمكانات المطلوبة لجمع تلك الأوراق ونقلها من مكان إلى مكان آخر. ورجعت في ذلك إلى بعض أهم خبراء الطباعة والإحصاء، الذين أجمعوا على أن الأمر يتعذر أخذه على محمل الجد، لأنه من المستحيل من الناحية العملية أن يقوم مجموعة من الأشخاص المتطوعين بجمع توقيعات 22 مليون مواطن خلال أسابيع محدودة وبإمكاناتهم اليدوية المتواضعة. ألححت في السؤال عن التفاصيل فقيل لي ما يلي: إذا اعتبرنا أن الاستمارات مطبوعة على الورق العادي وبالقياس المتعارف عليه، فسنجد أن الرزمة تحتوي على 500 ورقة ووزنها 2.50 كيلو جرام. والكرتونة الواحدة تحتمل 5 رزم وكل 50 كرتونة تحتاج إلى متر مكعب لكي توضع فيه. وبعملية حسابية نجد أن المتر المكعب يستوعب 125 ألف ورقة.
زنتها نحو 125 كيلو جراما. في هذه الحالة فإن المليون توكيل يحتاج إلى 8 أمتار مكعبة، الأمر الذي يعني أن الـ22 مليون ورقة تحتاج إلى 176 مترا مكعبا. وإذا علمنا أن عربة النقل العادية أو الشاحنة التي تصل حمولتها إلى 3 أطنان، تحتمل خمسة أمتار مكعبة من الورق، فمعنى ذلك أن الـ22 مليون ورقة تتطلب توفير أسطول يضم 35 شاحنة لنقلها من مكان إلى آخر.
وهو ما لم ينتبه إليه الذين يطلقون الأرقام ويرفعون منها يوما بعد يوم، دون نظر إلى الإمكانات العملية لتحقيقها على أرض الواقع. أدري أن باب المزايدات مفتوح على مصراعيه في مصر منذ عدة أشهر. وهناك مزايدات في السياسة لا سقف لها، وفي الهرج السائد في مصر وفي ظل قوة ووفرة وسائل الاتصال فقد بات بمقدور كل أحد أن يطلق أي كلام، وأن يبثه من خلال الشبكة العنكبوتية التي أصبحت أدواتها في متناول الجميع دون أن نعرف لأي منهم وزنا. ومثل ذلك الاضطراب مفهوم في أجواء الانفلات التي تصاحب الثورات، لكن الأمر يستدعي قدرا من الحذر حين يتعلق الأمر بالأرقام. إن من حق أي باحث أن يقول حين يسمع أرقام المليونيات المتداولة في ساحتي المعارضة والتأييد أن يتساءل: لماذا لا تذهب تلك الملايين إلى صناديق الانتخاب لكي ترجح الكفة التي تراها أصلح لإدارة البلد، بدلا من حشد الحشود وملء الأجواء بالصياح والضجيج، ناهيك عما يستصحبه ذلك من عنف وفوضى وتعطيل للمرافق وإهدار لمصالح الخلق. لقد كانت الديمقراطية المباشرة صيغة اعتمدتها أثينا في اليونان القديمة. ثم تطور العقل السياسي بمضي الوقت وانتقل العالم إلى الديمقراطية التمثيلية، ووحدها سويسرا نظرا لظروفها الخاصة مازالت تمارس تلك الديمقراطية المباشرة ممثلة في استفتاء المقاطعات المختلفة (الكانتونات) على التعديلات والتشريعات المختلفة، وحتى في هذه الحالة فإن نتائج الاستفتاءات تحيلها منظمات المجتمع المدني إلى البرلمان لكي يسترشد بها فيما يصدره من قوانين. والفرق بين ما يفعلونه وما نمارسه يجسد الفرق بين الجد وبين التهريج السياسي والهزل. وهم يبنون ويتقدمون، أما نحن فنضيع أوقاتنا ونهدر طاقاتنا، ونصيح ونركض، لكننا لا نتقدم خطوة إلى الأمام وربما عدنا خطوات إلى الوراء.
التعليقات