عزت صافي
يقول الإخوة في أقطار المغرب العربي عن السنة التي تمضي أنها laquo;السنة الفارطةraquo;. ولعلّ هذا التعبير ينطبق على العالم العربي، فهو في حاله الراهنة laquo;عالم فارطraquo;.
لقد سبق للباحث العربي ساطع الحصري أن قال إن العرب laquo;ظاهرة صوتيةraquo;. طبعاً هو كان يعني أنهم حاضرون من خلال أصواتهم الخطابية في التظاهرات والمهرجانات والمناظرات. أما في هذه المرحلة، فالأصوات العربية مأخوذة إلى جبهات القتال بين الإخوة، بمدافع الدبابات، وبصواريخ الطائرات، وبالسيارات المتفجرة.
لا شهداء في هذه الحروب العربية، بل ضحايا، قوافل جنازات أولاد وأطفال رضّع، وعجزة، ومقابر جماعية، ولا عزاء..
في هذا الوقت الذي يضيع بكلفة يومية باهظة من أرواح الأبرياء ومن بقايا مقوّمات الحياة ومن آثار الحضارات والتاريخ، لا ينتظر المواطن العربي فرجاً، إنما يردّد الدعاء الكريم: laquo;اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف بهraquo;.
المحزن المؤلم، أن العربي يردّد هذا الدعاء في حروب تؤجج نيرانها أنظمة ومنظمات وعصابات إجرامية، وتكفيرية، وإرهابية، من داخل وليس من خارج، فالعدو في الخارج مطمئن البال الآن، وقد ضمن استقراره إلى أمد بعيد، وبكلفة أقل في حساب موازنات الدفاع أو الهجوم.
لا تحتاج إسرائيل إلى مزيد من التطمين، فوزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل أعلن بصراحة تامة في منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أن المنطقة laquo;قابلة للاشتعالraquo;،هذا يعني -على الأقل- أن كل هذه الحرائق والكوارث التي تحدث في المنطقة العربية هي مجرد علامات للحريق الأكبر المنتظر.
لم يضف الوزير الأميركي أي تفصيل أو إيضاح لدواعي إطلاق هذا النذير الأسود، لكنه حرص على الإشارة الى أن الولايات المتحدة الأميركية تؤكد التزامها حضوراً حازماً في laquo;هذه المنطقةraquo;، وأنها تجدد تعهدها أمن إسرائيل لتكون بناء laquo;من إسمنت مسلّحraquo;.
بهذه الالتفاتة أراد وزير الدفاع الأميركي أن يؤكد المؤكد. فإسرائيل قضية وأمانة في عنق الولايات المتحدة وفي أعناق معظم دول الغرب، ومعها روسيا. والصين ليست بعيدة.
لم تمض ساعات قليلة على التصريح الذي أدلى به الوزير هاغل على متن سفينة حربية مرابطة في مياه الخليج، حتى أعلن الرئيس باراك أوباما أن جميع الخيارات هي على الطاولة في التعامل مع إيران، مؤكداً أن laquo;لا صفقة نهائية تبقى أفضل من صفقة سيئةraquo;.
ومن خارج السياق قال أوباما إن تصرّف إيران المخرّب في المنطقة هو ضد المصلحة الأميركية والإقليمية.
فمن يدري ماذا يدور في رأس أوباما؟ إنه على الأقل يتقن أسلوب الإيرانيين في التعامل مع القضايا المعقدة التي تحتاج الى قدْر من الذكاء والخبث لا يقلّ عن قدْر من الشجاعة والاستعداد لبلوغ الهدف.
بفضل هذا الرئيس المتميز بالذكاء والدهاء، وبالدماثة إلى درجة الضعف، تخلصت إسرائيل وحلفاؤها من خطر السلاح النووي الذي لم تصنّعه إيران إلا لترهيب دول الخليج العربية ومَن حولها من دول آسيوية، وخصوصاً الدول ذات الأغلبية السنية مع أقليات شيعية وسواها من مذاهب مختلفة.
بصورة ما، تبدو إيران (الثورة) العدو الأول لإسرائيل في العالم، ولكن بصورة أخرى تبدو وكأنها laquo;إسرائيلraquo; الثانية في الشرق الأوسط، فمنذ تأسيسها على أنقاض الدولة laquo;الشاهنشاهيةraquo; التي كانت قائمة على الظلم والغرور، باشرت إيران laquo;الحديثةraquo; تنفيذ مشروعها القائم على نزعة قومية مذهبية ذات مخالب ناعمة، لكنها جارحة الى حدّ أنها تمكنت من اختراق النسيج الديني العربي المؤلف من خيوط وألوان روحية وثقافية وحضارية وإيمانية، فعملت فيه تمزيقاً حتى استطاعت بمالها وإعلامها وسلاحها، أن تسقط أنظمة ومناطق وجماعات تحت هيمنتها سياسياً وعسكرياً.
وقد تكون الإشارة في محلها إذا ما تذكر المراقب الدائم لمجريات الأحداث في العالم العربي والآسيوي، إن منظمات متعددة الاسم والانتماء، تستّرت بالجهاد منذ بدايات العقد الثامن من القرن الماضي، وراحت تضرب في أعماق الدول الضعيفة والفقيرة لتستنفر الغرائز المذهبية وتشجّع على الفوضى. ومنذ ذلك التاريخ الذي يعود إلى السنوات الأولى من الثورة الإيرانية، بدأت الدول العربية تعيش هواجس الفرقة والتناحر بين أبناء الدين الواحد. ولم يمض زمن طويل حتى صار العربي في عالم الغرب مشتبهاً فيه حتى ثبوت العكس.
لنتذكر أفغانستان وكيف تسللت إليها الأيدي الخفية التي تزعم الحرب على laquo;الكفارraquo; وسواهم من شعوب دول laquo;الاستكبارraquo;. ولنتذكر صفقة الأسلحة السرية الشهيرة بين إسرائيل والثورة الإيرانية في مطلع الثمانينات الماضية، وقد عُرفت تلك الصفقة بـ laquo;إيران غيتraquo;، نسبة إلى فضيحة laquo;ووترغيتraquo; الأميركية التي ذهبت برئاسة نيكسون.
إنها الخيانة الأميركية عينها تتكرر، صفقة مع إيران على سورية، وربما على لبنان، تتمة لصفقة سابقة على العراق لحساب إيران وإسرائيل، فقد تدمّر العراق، وتشلّعت محافظاته، وتفرّق شعبه laquo;شُعباًraquo; متناحرة طائفياً وقومياً ومذهبياً، وغارت ثرواته في أعماق خنادق التقسيم الذي لم يتم الاتفاق على عنوان له بعد.
قبل العراق كانت هناك دولة يوغوسلافيا السابقة التي وحّدها قائد تاريخي اسمه laquo;جوزف تيتوraquo;. دولة كانت قاعدة البلقان، وكانت نموذجاً للتآلف والاندماج بين ست جمهوريات. تتكلم ست لغات، وتنتمي إلى قوميات وأديان سموية، مسيحية وإسلامية، من أصول مشرقية وآسيوية وأوروبية. تلك الدولة سقطت بصفقة بين واشنطن وموسكو، وذهبت ضحيتها مئات الألوف من الضعفاء والمساكين المؤمنين، لتقوم مكانها دويلات موسومة بأديانها ومذاهبها، وكلها مثقلة بأعباء تاريخ موروث من عصور الفظائع الإنسانية.
في هذا المناخ العاصف مجدداً في شرق المتوسط، وشماله، وجنوبه، تبدو صفقة واشنطن وطهران على سورية، وعلى لبنان، وعلى فلسطين، من خارج ورقة العمل التي كشف عنها باراك أوباما في بداية ولايته الأولى. لقد تناسى الرئيس الأميركي الديموقراطي أنه جاء الى مصر، باعتبارها كبرى الدول العربية، ليعلن منها شبه ميثاق يتعهد فيه تصميمه على تحقيق سلام في الشرق الأوسط، عبر التوصل إلى اتفاق تاريخي، يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية تملك مقومات البقاء والاستمرار، مقابل اعتراف الدول العربية بدولة إسرائيل.
فماذا جرى بعد نحو خمس سنوات من ذلك العهد؟
ما جرى، وما يجري سريعاً، هو أن إسرائيل توسّع المستوطنات بوتيرة عالية لم تشهد مثلها فلسطين المحتلة منذ عام 1948، وليس مستبعداً أن يكون أوباما شاهداً وعرّاباً لإعلان إسرائيل laquo;دولة يهوديةraquo; قبل انتهاء ولايته مع نهاية العام 2017.
في هذا الوقت، هل ثمّة حاجة للتذكير بأن الدول العربية لا ترفض قطعاً بقاء دولة إسرائيل؟
قد يكون من المجدي تذكير أوباما بأن القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002 أقرّت مشروع مبادرة سلام تقدمت به المملكة العربية السعودية، وقد عرض المبادرة في حينها وليّ العهد (الملك الحالي) عبد الله بن عبد العزيز، في إطار خطة سلام في ظلّ الشرعية الدولية، تضمن انسحاب إسرائيلي كامل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، وعاصمتها القدس الشرقية، وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيلraquo;.
فهل يتصور أوباما، ومعه اللوبي الصهيوني، وقادة إسرائيل، أن بإمكان العرب المضي أبعد من هذا الحد بالتساهل والتنازل من أجل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط؟
بغير هذا الحل لن يسلم بلد في العالم من الجنون والموت والدمار.
التعليقات