عاطف الغمري

لم يكن الإرهاب في أيامنا هذه، ظاهرة جديدة أو غير معروفة، بالنسبة للغرب وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، فقد تم إدراجه ضمن مصادر تهديد الأمن القومي، من بعد انتهاء الحرب الباردة عام ،1991 لكن بقاءه خارج حدود التهديد المباشر لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، جعلهم هناك يتعاملون مع منظمات إرهابية رافضين اعتبارها كذلك، طالما أن ذلك يحقق لهم مصالح استراتيجية . وكانت نتيجة عدم اتباع سياسة حاسمة، في مواجهة جميع جماعات الإرهاب، أياً كانت مسمياتها، والاكتفاء بتوجيه ضربات لبعضها، وغض النظر في الوقت نفسه، عن البعض الآخر، سبباً في تأخر الإدراك السياسي الذي تنبه إليه أخيراً بعض الخبراء في أمريكا، من أن الإرهاب كله موجود في سلة واحدة، وهو ما يهدد في النهاية الأمن الأمريكي وكان هناك تساؤل: هل تمت ترجمة هذا الإدراك المتأخر إلى مفهوم سياسي متكامل ومسلم به؟
والملاحظ أنه في عالم ما بعد الحرب الباردة، ظهر في الفكر الاستراتيجي العالمي، مصطلح غير المعروف عن المجهولين (أو غير المعروفين)، un .knowns unknowns
وهو تعبير يبدو غامضاً في صياغته، لكنهم أرادوا به التعبير عن عدم تحديد ملامح العدو في فترة تتسم بالتعقيد، وعدم القدرة على التكهن بالقوى المؤثرة فيها . فضلاً عن أن هذا التعبير ارتبط بالاهتمام بالأمن القومي للقوى الكبرى في الغرب .


وقد صدرت في عام ،1992 وثيقة عنوانها "الاستراتيجية العسكرية الوطنية الأمريكية"، تتحدث عن أن تهديد غير المعروفين، لا يزال أمراً غامضاً وملتبساً .


وبعد ذلك بقليل أي في عام 1994 نشرت مؤسسة "راند" دراسة عن التخطيط الدفاعي الأمريكي، تقول إن عدم اليقين، هو شيء يسيطر على طبيعة المشهد الدولي . وإن وثيقة التخطيط الدفاعي الأمريكي، تركز على التحديات المنذرة بالخطر، الناتجة عن انهيار مصدر التهديد الوحيد للأمن الأمريكي، الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفييتي
واستمر الأمر على هذا النحو من الغموض وعدم اليقين، في حسابات الدولة الأمريكية، إلى أن جاءت استراتيجية الدفاع الوطني في عام ،2005 لإزاحة معنى عدم اليقين جانباً، واستبداله بتحديد قاطع للمخاطر والتهديدات المتغيرة في العالم، وفي مقدمتها الإرهاب، الذي تضمنته قائمة تحتوي على مصادر متعددة، وعابرة للحدود تشمل إلى جانب الإرهاب، الجريمة المنظمة، وعصابات تهريب المخدرات، والأمراض الوبائية، والكوارث الطبيعية .
كان الإرهاب قد أصبح في نظر خبراء الاستراتيجية الأمريكيين مصدر تهديد متصاعد في القرن الحادي والعشرين .


بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ،2001 وتنفيذ تنظيم القاعدة، عمليات متتالية، فقد صار الإرهاب يمثل مشكلة فعلية، ما أدخل تفسيرات جديدة على مصطلح غير المعروفين، تصف الإرهاب بأنه ظاهرة معروفة للجميع . وهو ما تحدث عنه الكاتب الأمريكي ويليامسون موري في كتابه "أفكار عن الاستراتيجية العالمية"، بعبارته "معرفة المعروفين الذين لم يعودوا الآن غير معروفين" .


لكن لوحظ أن هذا الفهم لم يترتب عليه طوال السنوات الماضية، تغيير في نظرة واضعي الاستراتيجية الأمريكية، يجعلهم يتخذون موقفاً متجانساً غير متناقض تجاه مختلف جماعات الإرهاب، التي ترتبط جميعاً ببعضها، طالما أن بعض منظمات الإرهاب لا تشكل تهديداً مباشراً وعاجلاً للأمن القومي الأمريكي، من وجهة نظرهم . ووجود اقتناع لديهم بأن عصر ما بعد الحرب الباردة رغم عدم اليقين هو عصر الأمن النسبي لهم . ولاحظ ذلك البروفيسور كريستوفر فيتويس مؤلف كتاب "أمراض القوة في سياسة أمريكا الخارجية"، وقال في كتابه، إن الضمان الحقيقي للأمن القومي للولايات المتحدة، لن يتوفر إلا حين يرغم واضعو الاستراتيجية الأمريكية، على تغيير نظرتهم للتهديدات القائمة، والتخلي عن فكرة اعتبارها غامضة، وتبني نظرة تعترف بوجود تهديدات محددة وموجودة .


لكن استمر الثبات عند مفهوم غياب تهديد مباشر من بعض جماعات الإرهاب، مادامت تخدم المصالح الأمريكية سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر، مثلما حدث من ترك إدارة أوباما لتنظيم "داعش" يمرح في سوريا، على أساس تقديرات تصورت أن ذلك قد يسهم في إسقاط حكم الأسد، أو التحيز المطلق لحكم "الإخوان" في مصر، وهو أظهر لهم خطأ هذا الفهم، بعد أن اتخذت "داعش" من وجودها في سوريا، قاعدة انطلقت منها إلى العراق وبدأت في ممارسات تهدد مباشرة أمن الأمريكيين، وكذلك بعد أن نتجت عن سياستهم تجاه الحكم الجديد في مصر، تأثيرات سلبية في مصداقية الولايات المتحدة، ليس في مصر وحدها، بل في معظم الدول العربية .


وكان التغاضي عن بعض منظمات الإرهاب، قد بدأ في فترة حكم جورج بوش، والذي نظمت حكومته في عام ،2006 اجتماعاً في بروكسل لممثلين عن "الإخوان" في أوروبا وأمريكا مع مسؤولين بوكالة المخابرات المركزية، للتنسيق والتعاون، فيما يخص مصالح الولايات المتحدة .


ثم تصاعد التغاضي عنهم، إلى أن بلغ ذروته في عهد أوباما، بانحيازه الصريح للإخوان، على الرغم من اعتراض أصوات عديدة من سياسيين وكتاب أمريكيين، نشروا معلومات عن التاريخ الإرهابي لتنظيم "الإخوان" من بداياته الأولى، والصلة بينه، وبين تنظيم القاعدة، وغيره من منظمات أخرى . وكان ذلك دافعاً لكثير من المحللين الأمريكيين، لإطلاق حملات من الانتقادات لإدارة أوباما، تتهمها بالتضارب في سياساتها .


ولم تبدأ الخطوة النسبية، لإعادة النظر في ظاهرة الإرهاب، إلا بعد اتجاه تنظيم "داعش" إلى استهداف مواطنين أمريكيين، وأهداف في أقاليم بالعراق، تمثل في الحسابات السياسية مصلحة أمريكية . ومن المعروف أن تهديد سلامة المواطنين الأمريكيين، يعد بالنسبة حسب مفاهيم الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، قضية أمن قومي .


إن التقديرات المطروحة الآن في الولايات المتحدة، يتساءل أصحابها عن احتمالات حدوث تغيير - أياً كان مداه - في الاستراتيجية الأمريكية، في فترة ما بعد أوباما، سواء فاز الجمهوريون بالرئاسة، أو احتفظ الديمقراطيون بالبيت الأبيض . وعن التعامل مع تنظيمات الإرهاب، على أنها جزء من شبكة دولية تضمهم جميعاً في إطارها، باعتبارهم يتشاركون كلهم في فكر أيديولوجي واحد؟ أم أن حسابات الهيمنة الأمريكية التي لا تزال تعد عنصراً غالباً في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، وكذلك مبدأ استخدام الوكلاء المحليين، سوف تبقى عاملاً مستمراً يقضي باستثناء جماعات إرهابية، من اعتبارها إرهابية؟ لأن المصالح تتطلب ذلك!