&عبد الرحمن الحبيب

&

في الوقت الذي بدأت فيه جبهة النصرة تزيد تشددها الاجتماعي وتصعد أعمالها العنيفة متماهية مع داعش، فإن طالبان باكستان تجاوزت طالبان أفغانستان بتفجيرها مدرسة للأطفال. فهل تتسابق تلك الحركات بالعنف، ولماذا؟ وأين ستصل؟ ومن أكثرها عنفاً؟

الحركة الأكثر عنفاً، هي داعش، فقسوتها فاقت الحركات الأخرى حسب الظاهر الماثل أمامنا، لكن البحث العلمي الذي يرصد ما لا ترصده مستقبلاتنا الأولية لديه إجابة مختلفة تماماً. أصدرت فوكاتف (شركة إعلام أمريكية) تقريراً إحصائياً بعنوان «داعش جعلتنا ننسى كل شيء عن طالبان». فما هي خلاصته؟

خلاصته أنه بمقارنة معدل أعمال العنف لداعش وطالبان أفغانستان، فإنهما يتساويان بمعدل عدد الهجمات مع زيادة طفيفة لطالبان، لكن هجمات الأخيرة أكثر فتكاً. ففي كل خمس هجمات تقتل طالبان بمعدل عشرة أشخاص بينما تقتل داعش شخصاً واحداً. أي أن طالبان عشرة أضعاف داعش بالقتل. أما معدل تدمير طالبان لمركبات أعدائها فأعلى ستين ضعفاً ما تدمره داعش. النتيجة أن طالبان أفغانستان تتفوق كثيراً بعنفها على داعش. لا ننس أيضاً أن التزمت بالقضايا الاجتماعية لدى طالبان أشد كثيراً مما لدى داعش...

كيف نفسر ذلك ونحن كنا نظن أن طالبان لطيفة مقارنة بداعش؟ إنه ببساطة الإعلام والدعاية، فداعش أقل عنفاً لكنها أكثر ضجيجاً وبروباجندا. داعش أظهرت ولعاً بالإعلام وعرض أعمالها الوحشية لجذب الانتباه. فحسب تقرير فوكاتف فإن داعش لديها أربعة أجنحة للتعامل مع وسائل الإعلام، ونحو 15 من قادة وسائل الإعلام لكل ولاية من «الدولة الإسلامية»، بينما لدى طالبان اثنان من المتحدثين باسمها، وواحدة فقط من لجانها العشرة تتعامل مع الإعلام. لقد أظهرت داعش بالفعل كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي الإعلامية أكثر فعالية بكثير من الأسلحة والعبوات الناسفة في إثارة الإرهاب والرعب.

هل ثمة تصاعد بالعنف لهذه الحركات؟ هذا ما يبدو؛ إذ بدأت جبهة النصرة الاقتداء بداعش لما حققته من «إنجازات» مصعدة درجة تشددها وعنفها، وقامت طالبان باكستان بتصعيد حاد متجاوزة وحشية أعمال طالبان أفغانستان بتفجير مدرسة ابتدائية في بيشاور شمال غربي باكستان، راح ضحيتها أكثر من 140 قتيلاً أغلبهم أطفال، واعتبر أسوأ هجوم إرهابي يحصل بتاريخ باكستان، ومن الأكثر بشاعة بالتاريخ الحديث، حتى أن طالبان أفغانستان أدانت الهجوم بشدة!

لماذا تتصاعد درجة العنف لهذه الدرجة الهمجية؟ ظهرت هذه الحركات بمناطق تعمها فوضى أو ظلم شنيع، ومما ساعدها في بداياتها الأولى تعبئة إعلامية وسياسية، إقليمية أو عالمية، من الجهات «المعتدلة» تُعطى المظلومين حق استخدام العنف وتبرير ضحاياهم من المدنيين مما حفَّز النزعات العدوانية العنيفة لدى تلك الحركات التي أصلاً تمتلك نظريات عدوانية تجاه الآخر. وخلال دوامة الصراع المسلح أخذ العنف بالتصاعد.. إنها حرب القسوة وليست حرب العدالة..

هنا رفعت هذه الحركات درجة العنف أشد من خصمها كي تنتصر عليه، دون تمييز بين النظام الذي تحاربه والمكون الاجتماعي الذي يمثله، فسعت في حمى المعمعة لتدمير هذا المكون أو أي مكون اجتماعي آخر مخالف لها أو حتى محايد.. إنهم يسقطون شكل النظام وليس مضمونه القمعي.. لأنهم صاروا جزءاً من دائرة العنف لا يستطيعون الخروج منها، فيصعدونها لردع الخصم، حتى تصبح مدرسة أطفال هدفاً مشروعاً. هذه العمليات غير عقلانية بل حالة متأزمة مدمرة ترى الآخرين المسالمين مجرد وسائل وأشياء جامدة بلا مشاعر ولا إحساس، ليغدو قتل الأطفال جزءاً من هذه الوسيلة...

لنأخذ مثلاً دعوة السلفية الجهادية كالسرورية بنظرياتها المتشددة التي اقتصرت تطبيقاتها في البداية على الجهاد ضد الكافر المحتل، فزايدت عليها القاعدة بتحويل العالم إلى فسطاطين مدعومة بعمليات تفجير انتحارية ضد الفسطاط الآخر، فأتت داعش واعتبرت الجميع هدفاً لها بما فيهم أعضاء القاعدة ومن قبلهم كافة السلفيين الجهاديين الذين ليسوا معهم.. والآن زايدت طالبان باكستان على الجميع بقتل الأطفال في مدارسهم!

هل يمكن أن نجد تفسيراً علمياً لتلك الوحشية؟ في معسكرات الاعتقال النازية، مثلاً، كان العديد من أقسى الحراس هم أنفسهم سجناء من قبل في سجون «kapos» الدموية. الضحايا هنا استجابوا للصدمة بأن تحولوا هم أنفسهم إلى جناة، حسب تحليل البروفيسور أيان روبيرتسون، الذي يرى أن القسوة والعدوان وعدم التعاطف تكون هي رد الفعل المشترك للناس الذين تعرضوا للمعاملة بقسوة. وهنا يمكن أن نستحضر السجون السورية والعراقية خلال الأربعين سنة الماضية.

أما الهجمات الانتحارية فتبدأ بالتشكل عبر الذوبان في المجموعة أثناء الفوضى وانهيار الأمن.. إن ما تشاهده عندما تعلو وجوه الشباب الصغار المتشددين ابتسامات عريضة وقبضاتهم مرفوعة يلوحون بالأعلام السوداء بعد أن انتهوا من عملية ذبح.. هو تأثير مزيج عال من هرموني الأوكسيتوسين والتستوستيرون اللذين يرفعان المزاج أكثر بكثير من الكوكايين والكحول، وتحفيز العدوانية. ولأن الهوية الفردية ذابت في هوية الجماعة، يصبح الفرد أكثر استعدادًا للتضحية بنفسه، لأنه سيعيش من خلال المجموعة حتى إذا مات كفرد. عندما يكون الناس معاً، ترتفع مستويات الأوكسيتوسين بالدم، فيسهل فقدان التعاطف مع من هم خارج المجموعة فلا يصبحون بشراً بل مجرد أشياء يمكن فعل أعمال رهيبة تجاههم، حسب روبيرتسون.

إلى أين سيصل هذا التصعيد في العنف؟ إلى طريق مسدود لأنه يحمل مشروع تدمير وليس بناء، مشاريع حروب أهلية وليس استقراراً. لم يستخدم المتطرفون العنف والإستراتيجيات المدمرة، لأنها وسائل لتحقيق أهداف مفيدة بناءة، كما كانوا يعتقدون في البداية، بل لأنهم صاروا يشعرون بأن ما يقومون به هو عمل عادل كانتقام وثأر، وإلا كيف نفسر تفجير مدرسة أطفال مسلمين من حركة إسلامية متطرفة. ومن هنا فإن المقهورين والمحبطين أو المغررين الذين أيدوا حركات العنف في البداية سرعان ما ينفرون منها عندما يعانون من ويلاتها.

التوقف عن النظرة المتعاطفة لهذه الحركات في بداية أعمالها العنيفة، مع الإصرار على الوسائل السلمية لرفع الظلم، وتنمية النزعة الإنسانية ورؤية الآخرين كبشر وليس أشياء مجردة، هو أهم وسيلة لكسر دورة العنف المتصاعدة. إنما اجتثاث الجذور التي ينمو منها العنف هي العملية الأصعب والأطول، بمعالجة الظروف الاجتماعية المعززة للتطرف، عبر خفض الظلم وحماية حقوق الإنسان ودعم الحريات والمساواة..
&