الياس حرفوش

مهما حاولنا الابتعاد من هذه الحقيقة، وإغماض عيوننا خجلاً، لا نستطيع سوى أن نعترف بأن العام الذي ينقضي سيسجَّل في تاريخ العرب على انه عام أبو بكر البغدادي و «دولته الإسلامية». هي مأساة حقاً أن تكون هذه الصورة السوداء هي التي تبقى من «إنجازات» 2014 في الحقل العربي، لكن سواد الصورة لا يلغي الواقع. على أرض أهم حاضرتين من حواضر العرب التاريخية، ومن حلب السورية الى الفلوجة العراقية، يتمدد «داعش» فارضاً سلطة «دواوينه» وقوانينها على ملايين البشر، الذين نجوا من مدافع دباباته وسكاكين جزاريه ومن مآسي التهجير التي خلفتها قواته حيثما حلّت.

صحيح أن «داعش» فشل إلى الآن في استعادة السيطرة على عاصمة العباسيين، على الرغم من سقوط الموصل سريعاً في يده في أواخر حزيران (يونيو) الماضي. وصحيح أيضاً أن تقدم «داعش» في عين العرب اصبح بطيئاً، ولم تعد سيطرته على المدينة الكردية مضمونة كما كان الحال عندما باشر هجومه عليها، لكن هذا لا يلغي أن التنظيم لا يزال قائماً ولا تصحّ الاستهانة بنفوذه على الأرض التي تتواجد قواته فيها، ولا بحال الرعب التي ينشرها بين أتباعه وخصومه على السواء، كما لا يمكن تجاهل ارتدادات ما يمكن أن نسميه «حالة داعش» بين الجاليات المسلمة في الدول الغربية، والتي تدفع بفتيان وشباب من هذه الجاليات الى مغادرة هذه الدول للالتحاق بجيش «الدولة الإسلامية».

سوف يتوقف كثيرون من مؤرخي المستقبل عند هذه الظاهرة الخطيرة التي تعمل على العودة بمجتمعاتنا وبثقافتنا إلى عصور سحيقة، كما تعمل على إسقاط حدود الدول والكيانات الوطنية تحت ذرائع واهية، بحجة فساد أنظمة الحكم فيها أو فشل هذه الكيانات في حماية مصالح مواطنيها. لكن التاريخ سيتذكر أيضاً الظروف التي رافقت قيام هذا التنظيم الإرهابي وانتشاره في سورية والعراق، واستغلاله مناخ النقمة العارمة في البلدين على نظامي نوري المالكي وبشار الأسد.

لم يكن قيام «داعش» مسألة حتمية. إنها ردة فعل، ومثل كل ردات الفعل لا بد للمعالجة من العودة إلى الأسباب. لا بد من النظر إلى إمعان نوري المالكي ومن وراءه في الهيمنة والتسلط واستئثار فريقه بمغانم الحكم، وما أدى إليه من معاداة فريق كبير من السنّة العراقيين لمشروع الدولة الوطنية. كذلك الحال في سورية، التي تحولت نتيجة سياسات الأسد وارتكابات مسلحيه وجرائم عصاباته إلى مشروع إيراني للهيمنة والتمدد في قلب العالم العربي.

لقد شجعت السياسات المذهبية الإيرانية في مناطق نفوذها، من العراق وسورية وصولاً إلى لبنان واليمن، على قيام حالات مذهبية متطرفة من الجهة الأخرى، هي الحالات التي يسعى تنظيم «داعش» لاستغلالها في عملية الاستقطاب التي يقوم بها بين جيل من الشباب يرفض الهيمنة الإيرانية في بلاده، ولا يرى في الوقت ذاته أن نظامه القائم يوفر رداً مناسباً عليها.

بسياساتها هذه نجحت إيران في تقديم صورة قاتمة عن القوى التي تقف في وجهها، وبفضل هذه السياسة أيضاً نجحت إيران في دخول شراكة في الحرب على الإرهاب مع «الشيطان الأكبر» الذي كان الى وقت قريب يعتبر نظام طهران «داعماً للإرهاب». هكذا لم يعد الغزل المتبادل بين الجانبين مستهجناً، كما سمعنا على لسان الرئيس الأميركي باراك أوباما في حديثه الاذاعي الأخير الذي دعا فيه طهران إلى الاستفادة من هذه الفرصة «للتصالح مع العالم»، كما اعتبر أن التوصل الى اتفاق حول ملفها النووي يسمح لها بأن تصبح «قوة إقليمية ناجحة للغاية».

بحجم الصورة السوداء التي تبقى عن العالم العربي في عام 2014، بنتيجة ارتكابات «داعش» وجرائمه، تقف إيران في صف المستفيدين من هذه الفرصة. لقد ساهمت سياساتها في التفكك الذي يضرب العالم العربي ويقسّم مجتمعاته الى كيانات مذهبية متناحرة. وها هي اليوم تتفاوض مع أعدائها السابقين على حصتها من تلك الكيانات.
&