يعقوب أحمد الشراح

تزخر الأدبيات بمفاهيم عن الفكر الاستراتيجي كاتجاه حديث ظهر في السنوات الأخيرة في الدول الصناعية من أجل مواكبة هذه الدول للمتغيرات الكثيرة التي تعصف بالعالم أمام تزايد احتياجاته من الخدمات. فلقد وجد أن عدم العمل بالفكر الاستراتيجي يؤدي إلى أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعة تشكل في مجملها تهديدات لتطلعات هذه الدول ورغبات شعوبها في المزيد من الازدهار.

إن مفهوم الفكر الاستراتيجي يختلف عن «التخطيط الاستراتيجي» في أن الأول هو الأساس لأنه يعتمد على الطريقة المنهجية في التخطيط، والعمل بالأهداف وترسيخ مبدأ الشراكة العامة، واحتمالات الوقوع في الأخطاء قليلة، والتطبيق بأقل كلفة مادية مع تجنب الهدر في المال العام.. لذلك فالكثير من الدول المتقدمة تعتمد على العمل بالأهداف والإجراءات وتقييم النتائج في إطار زمني محدد وتقويم مستمر سلس وميسر وفاعل....

لكن البحث في الفكر الاستراتيجي من خلال ما نقوم به سنوياً من أعداد للخطط والعمل بمفهوم التخطيط للتنمية يعكس ضعف اهتمامنا في هذا الاتجاه. فالحاصل أننا نكتفي بوضع الخطط من دون الالتزام بخطط التنفيذ أو ربما غياب ذلك مما يجعل هذه الخطط فارغة من المضمون، واحتمالات الوقوع في الأخطاء كارثية وغير محتملة.

هذا الواقع جعل المجلس الأعلى للتخطيط مجرد جهة توصي وتقترح من دون صلاحيات تخولها إجبار قطاعات الدولة على التنفيذ لدرجة أنه أصبح شكلا صوريا لامعنى له بسبب ضعف إنجاز المشاريع الكثيرة أو محاسبة قطاعات الحكومة في حال إهمال ما أقره المجلس من البرامج. فلقد تعثر الكثير من البرامج المهمة بعد أن مضى عليها عقود من الإهمال مثل التركيبة السكانية، جودة الخدمات، تطوير الإدارة، الاهتمام بالتنمية البشرية، وجعل البلاد مركزاً اقتصادياً (ماليا) وغيرها.

والسؤال، لماذا لا تتحقق أهداف التخطيط الاستراتيجي في البلاد رغم تأكيدات الحكومة بأن لديها خطة تنمية، وأموالا مرصودة، ومجلسا أعلى، وقطاعات حكومية تساهم في هذه الخطة؟ لماذا هذا التخلف المريع في التنمية بينما نشاهد كيف سبقتنا الدول الخليجية التي اكتسبت خبراتنا القديمة، وسارعت في دفع عجلة التنمية بالاستعانة بالخبرات والبيوت الاستشارية لديها من دون انتظار أو تدخلات بيروقراطية.

إن تعثر التنمية لدينا لا يعود في رأيي إلى تدخلات بعض نواب المجالس النيابية أو الصراع المستمر مع الحكومة على قضايا خلافية كما يشاع بقدر ما هو شأن حكومي يتسم بالضعف والتأثر بتدخلات المتنفذين وأصحاب المصالح، وتدني مستوى الأداء العام...

نتمنى أن نعمل على ترسيخ الفكر الاستراتيجي كــسلوك معرفي وتدريب ونظام حياة لا يتوقف عند زمن أو حدود معينة، وإنما نجعله نظاما حياتيا ينبغي أن يدرس ويتعلمه الأبناء في مؤسسات التعليم، فلو كان لدينا الفكر الاستراتيجي عند وضع الخطط على المستويين التشريعي والتنفيذي لما عانينا التخلف الكبير في ميادين التنمية، ولما استشرى الفساد في أجهزة الحكومة، وضاعت الأموال العامة بسبب الأخطاء أو الفساد أو الإهمال، وحدوث المزيد من التخلف والتراجع عن ركب التقدم...
&