مطاع صفدي

عندما تم اختطاف مصر إلى معسكر الصهيونية والفساد بعد هزيمة كمب ديفيد، اهتز الكيان العربي من مشرقه إلى مغربه كأنه افتقد فجأة عموده الفقري. فكان من المفترض بل المنتظر أن تتساقط بقية أقطار العرب واحداً بعد الآخر؛ ذلك التساقط لم يكن انهزاماً عسكرياً أو سياسياً، مثلما كان الحال بالنسبة لتلك الأقطار الثلاثية المنخرطة في الصفوف الأولى من جبهة الصراع ضد الصهيونية والاستعمار. وهي مصر وسوريا والعراق. فقد فهمه العرب جميعاً ومعهم الإسلام الإقليمي والعالمي على أنه استسلام للأعداء، وليس سلاماً معهم مطلقاً.


لقد تأخر إخراج العراق من هذه الجبهة حوالي ثلاثة عقود. ولم يتحقق إلا مع الغزو الأمريكي بقواه العسكرية الجبارة.


خلال هذه المسافة الزمنية خضع العالم العربي لنوع آخر من المروحة الأوسع لنماذج الحروب الداخلية، والإنقلابات العبثية، وأشكال التخريب الممنهج لاستراتيجيات النهوض الإجتماعي، اقتصادياً وتربوياً وإنسانياً. فكان وقف المواجهات الدولانية مع إسرائيل أشبه بفرصة التاريخ شبه المستحيلة لكي تنفرد الصهيونية بتدعيم قلعتها، وترسيخ هيكل دولتها في عظم ولحم الجغرافية العربية.


كان السلام الإسرائيلي قد أناط بذاته وحدها الإمساكَ بعقدة موازين القوى الإقليمية جميعها من حوله. كان على إسرائيل أن تتفرغ لاستئناف خطوط أعمق في مشروعها، حسب استراتيجيتها الكلية. فالسيطرة الكاملة على الإقليم العربي لا تتطلب أن تُرفع أعلام نجمة داوود هكذا علناً على هامات كل المتغيرات الكبيرة الخطيرة التي ستصاب بها مختلف مناحي الحياة العامة للمجتمعات العربية. فإن امتناع النظام العربي الحاكم عن سياسة الحرب الدائمة مع الكيان الإسرائيلي.


جعل هذا الكيان ينتقل من طور الدولة الغازية، إلى طور شبه الدولة المستقرة أمنياً واجتماعياً واقتصادياً؛ وما كان يُسمَّى بدول جبهة الطوق حول إسرائيل لم يعد له لزوم واقعي ولا استراتيجي، بعد أن استقالت مصر السادات، ومبارك بعده، من كل مهمة فعالة في الحفاظ على الأمن القومي. بل أصبح الأمر الواقع منقلباً كلياً على بديهيات هذا الأمن، من محوره الثابت المركزي فيه، الذي كان له عنوان وحيد وهو إبطال المشروع الصهيوني وأخطاره على المنطقة العربية ككل، وليس على الوطن الفلسطيني وحده.


بعد انسحاب مصر لم يبق من دول الطوق إلا بلاد الشام والرافدين حيثما كانت فلسطين ولا تزال في مفهومه جزءاً جيولوجياً واستراتيجياً وحضارياً منذ بداية التاريخ. لم يكن عزل مصر كافياً بالنسبة لضمانة البقاء الصهيوني في قلب العالم العربي. هذا المشرق الذي كانت ولا تزال له دعاماته الأساسيتان مابين دمشق وبغداد. فلسطين هي الجنوب العضوي من الجسد الشامي، وليس الامتداد الجغرافي له فحسب. كل الأحداث السياسية الكبرى الموصوفة بالإنعطافية التي شكلت تاريخ الاستقلال الوطني لهذه المنطقة كانت خاضعة لمعيار واحد هو تحرير فلسطين كضرورة وجودية لاستعادة الاستقلال الوطني والقومي الصحيح للمجموع العربي وليس لقطر دون آخر. لذلك لم تكن منهجية «كمب ديفيد» لتنجز مهمتها من دون أن يتنازل هذا المشرق عن شخصيته التاريخية متقبلاً هزيمة الجزء من كيانه كما لو كان هزيمة لبقية مكونات كيانه جميعها.هذه الإستراتيجية لم يكن سهلاً تحقيقها بالنسبة للعقل الصهيوني وأدواته إلا في وضع المخططات القادرة على ضرب أسافين الفصل والتضاد بين أنظمة المشرق الحاكمة وشعوبها. كان المطلوب هو حرمان هذه الشعوب من كامل حرياتها المدنية جملة وتفصيلاً. هو انتزاع قوة المبادرة من أيديها وجعلها مطايا سهلة للفئويات الضالة المضللة، تصعد على ظهورها إلى كراسي الحكم لتتداولَ فيما بينها حقَائب الجلادين المتناوبين على قهر مجتمعاتهم بأحدث وأخبث وسائل الإجهاض الذاتي لمشاريعها الإصلاحية.


هذه هي الحقبة المريرة الملحقة باتفاقيات سلام مخادع مكذوب. إنها حقبة التصفيات على أنواعها السياسية والاقتصادية ومن ثم العسكرية، بهدف قمع إمكانيات القوة والصمود. حتى قبل أن تنتج أجهزتَها ومؤسساتِها غير القائمة بعد، أو تلك القائمة والمشبوهة في هويتها الأصلية. ولقد حفلت هذه الحقبة بنوعية الإنقلابات العسكرية والفئوية الفوقية ، فكان أن تبعتها كنتيجة حتمية لها، موجةُ الحروب والفتن الأهلية. وعندما لم يتبق للشعوب ثمة (عقائد) للنضال السياسي ومفرداته، قادرة على استنهاض الجماهير الواسعة، واجه العالم العربي دفعة واحدة نوع الحتميات العليا الصانعة لأنطولوجيا الحضارة الإنسانية، وفي قمتها هي حتمية التلبية المباشرة لنداء الحرية.


فحتى تتبقّى للشعوب المقهورة ثمة صِلةٌ ما بذاكرة كرامتها عند ذاتها، فإنها على الأقل قد تناضل من جديد من أجل أن تحيا بقوتها الذاتية أو تموت بيدها، بطريقتها، وليس بيد أعدائها، إذا كان العرب يعيشون أخيراً عصراً لتحقيق الحرية، وليس للتبشير بها كما فعلوا منذ زمن سحيق، فإن فلسطين المغتصبة صهيونياً، شكلت لطلائع العرب ذاكرة الكرامة المثلومة، إنها الباعثة المستدامة على ثقافة الحرية. وما كان نسيانها أو تناسيها. لدى حكامهم، سوى إقرار ضمني. بمشروعية ما كاذبة للكيان الإسرائيلي المصطنع، وهو الأمر الذي لم تجرؤ على إعلانه ألسنتهم المعقودة بالخوف من هذا (الرأي العام ) الشعبي، الموصوف بالعربي تنزيهاً له عن كل شراكة مع المدعين لتمثيله، ذلك أن هذا (الرأي العام ) العربي هو الموطن الدائم والصريح للحقائق، وإن كانت مطموسة تحت أراجيف الطغاة.
اليوم، ها هي ثورة فلسطين المتجددة تستنفر الرأي العام الشعبي بعد أن طغت سريعاً على السمعة السيئة للغالبية من المقتلات الأهلوية المحتدمة ما بين الشام والرافدين. لعلها تذكر المتقاتلين جميعاً، وهم تحت أعلامهم السوداء وسواها، أنه لا ثورة تستحق اسمها الشرعي، ولا تنهض لأي دور حقيقي فاعل في حياة الأمة، حاضرها ومستقبلها، إلا إذا استحوذت على مصداقيتها في ذاتها، ومن ثمَّ بالنسبة لأوسع وأنقى رأي عام عربي، بل إنساني، مستمدٍ من معين واحد هو فلسطين؛ إنها الشهيدة التي لا تموت، وهي الشاهدة الأولى والأخيرة على كل ما يفعله ثوار العرب وطغاتهم باسمها، تحت كنفها، أو بعيداً عنها، بل ضداً على شرعيتها الأصلية أحياناً كثيرة.


انتفاضة فلسطين الراهنة تعيد اللحمة القومية والوطنية إلى صفوف المتفرقين والمبعثرين من رجالها الأبرياء بين مختلف جبهات التقاتل الإيديولوجي. ثم القبلي والأهلوي. إنها الانتفاضة الموحِدّة ضداً على سيطرة نوازع التشرذم والتقسيم والتفتيت المستشرية، كأن هذا الواقع السياسوي الدموي الذي يجتاح حقول ربيع عربي لم يُتحْ له أن يزهر ويثمر إلا مواسمَ الإحباطات الجماعية. فقد لا تكون هذه الانتفاضة صدفة عارضة في زمن العواصف الطائشة. فهناك من يريد أن يربط الإنتفاضة باسم فصيل فلسطيني معين، في حين أن فلسطين هي الثائرة اليوم، وكما كانت في كل مناسبة صراعٍ كبرى مع عدوها الصهيوني المحتل لمعظم جغرافيتها لكنه هو الأجنبي، الطارئ المزمن، وسوف يظل هو الدخيل على مكوناتها البشرية والحضارية. ذلك أن الرأي العام العربي الذي كان دؤوباً على تجديد الثقة بفلسطين كقضية، وبمعزل إلى حد ما عن مسالك المنظمات، الناطقة باسم النضال من أجلها. لا يسعه مع اللحظة التاريخية الراهنة من تعثر ثورات الربيع وانحرافات بعضها، إلا أن يعيد نوعاً من ثقة قديمة بإمكانية أن تسترد النهضة العربية وحدتها الثورية بقدر ما تستعيد فلسطين دورها المركزي المعهود، وذلك انطلاقاً من مهمتها العظمى المنتظرة هذه المرة، في استنقاذ الربيع العربي من مآزقه التحريفية المتتابعة، في إطلاق ربيع نهضوي شامل ليس قطرياً، ولا فئوياً، ولا طقسياً زائفاً.


عودة فلسطين إلى ذاتها الثورية هي شرط أنطولوجي كلي لكي لا يموت الربيع العربي تحت أشواكه، لكي لا يصير له اسم ولقب الربيع المنكوب، كما كان لفلسطين ثورتها المنكوبة منذ عشرات السنين..