علي بن طلال الجهني

إن الهدف من كتابة هذا الموضوع ليس أكثر من اجتهاد لمحاولة استقراء أسعار النفط في المستقبل المنظور، استرشاداً بمسيرة أسعار النفط منذ استخدامه في البدء في التدفئة والإضاءة على نطاق واسع في أواخر القرن الـ19. ففي عام 1905، مثلاً، هبط متوسط سعر البرميل الواحد من النفط في الربع الأول من تلك السنة إلى أقل مما كان عليه في خريف 1903 بنحو 60 في المئة.

&

وربما يكفي لاستقراء احتمالات اتجاه الأسعار ما حدث في ثمانينات القرن الماضي التي تابعتها كما تابعها زملاء كثيرون من جيلي ومن الجيل الذي سبقه.

&

ففي الربع الأول من عام 1980 كان متوسط سعر برميل النفط وفقاً لما اتفق عليه (على الأقل شكلياً) أعضاء منظمة «أوبك» 37 دولاراً أميركياً، (أو نحو 100 دولار حالياً)، أي كان سعر برميل النفط في عام 1980 مئة دولار بمقياس دولارات 2015. ولكن قوى السوق لا يهمها، حتى وإن ادَّعى بعض المراقبين خلاف ذلك، ما قالته أو تقوله منظمة «أوبك» أو أي منظمة أخرى كبيرة أو صغيرة، فالذي يقرر الأسعار ليس الأقوال، وإنما واقع الحال المعاش. فالنفط مهما كانت أهميته سياسياً واستراتيجياً واقتصادياً، يبقى من السلع التي يحدد سعرها مجموع الكميات المعروضة ومجموع الكميات المطلوبة وما يرجحه أو يتوقعه ذوو الشأن في المستقبل مما سيعرض ومما سيطلب.

&

والذي يحدد التوقعات أو الاحتمالات ليس مجرد تخمينات وإنما المبدأ نفسه الذي تخضع له سوق التأمين بكل أنواعها. فشركات التأمين تحاول تقدير احتمالات التعرض للحوادث ممن يسلكون طريقاً معيناً أو طرق بلد كامل، بناءً على الإحصاءات المتوافرة عن الحوادث في السنوات الماضية. وكذلك المتداولون في أسواق النفط الآجلة يقدِّرون احتمالات ارتفاع الأسعار أو هبوطها بناءً على ما تعلموه في فترات سابقة تشمل تقدير كل ما يؤثِّر في الأسعار، كالمخاطر السياسية في مناطق الإنتاج أو الاستهلاك أو في ممرات النقل. ومع أن تقدير الاحتمالات أمر يحتمل الخطأ والصواب في أي فترة قصيرة (من سنة إلى 3 سنوات)، ولا سيما بالنسبة الى أسعار النفط، فإنه علم مشتق من علوم الرياضيات والإحصاء ويكون في المتوسط دقيقاً.

&

نعود إلى مسيرة أسعار النفط في الماضي القريب نسبياً.

&

هبط سعر النفط من مستواه الرسمي (37 دولاراً) المعلن في عام 1980 إلى نحو 27 دولاراً في أواخر 1985. ولم يرافق التوفيق بعض الدول المصدرة التي خفَّضت إنتاجها وصادراتها بنسبة عالية، ظناً منها أن خفض الإنتاج سيحول دون تدني الأسعار.

&

فماذا حدث؟

&

قوى السوق تجاهلت كل محاولات مصدري النفط، وتوقعت مزيداً من انهيار الأسعار، كما حدث فعلاً، فوصل متوسط سعر البرميل إلى أقل من 10 دولارات في خريف 1986 (أي انخفض السعر من نحو 60 دولاراً إلى نحو 23 دولاراً) بدولارات كانون الثاني (يناير) 2015.

&

ونشرت صحيفة «نيويورك تايمز» في وقتها افتتاحية طويلة، ملخصها أن هناك فائضاً نفطياً ضخماً إلى درجة أن «العالم يطفو على بحيرة من النفط». ولا داعي للقلق في ما يتعلق بأسعار النفط.

&

والسؤال الأهم: هل سترتفع مرة ثانية أسعار النفط التي تدنت بأكثر من النصف؟

&

الذي توحي به مسيرة أسعار النفط الطويلة (*1)، التي مرت باضطرابات كبيرة في الأعوام 1871 و1895 و1905، وكما ذكرنا أخيراً نسبياً في الأعوام 1974 و1980 و1986، وحالياً بالطبع أي في مستهل 2015، يتلخص في ترجيح احتمال ارتفاع الأسعار.

&

أما متى ترتفع الأسعار؟ وفي أي أسبوع أو شهر أو سنة؟ وإلى أي مستوى؟ فلا يوجد مخلوق واحد يعرف الإجابة بكل تأكيد. فالذي يعرف تحديداً وقت ارتفاع الأسعار ونسبة ارتفاعها يصبح بليونيراً بالمتاجرة في أسواق النفط الآجلة خلال أيام معدودة.

&

أما سبب ترجيح صعود الأسعار فيعود بالدرجة الأولى إلى أن هبوط أسعار أي سلعة بسرعة وبنسب كبيرة من غير السلع التي يمكن تصنيعها وليس مجرد استخراجها ونقلها، يؤدي في حد ذاته إلى زيادة المطلوب منها. والذي يحكم زيادة مستوى الطلب هو نسبة النمو الاقتصادي في الدول المستهلكة للنفط. بل وفي العالم أجمع. وهذه النسبة - لا محالة - سترتفع على رغم أمراض عملة اليورو المزمنة.

&

وماذا عمّا يشكله إنتاج النفط الصخري من زيادة في المعروض الى درجة تلغي زيادة المطلوب؟

&

الأرجح وكما جاء في مقالة الثلثاء الماضي (6-1-2015). وملخصها أن الإنتاج من الحقول التي تم حفر آبارها وبناء بقية توابعها سيستمر مهما تدنت الأسعار. أما الجديدة التي لا بد من استثمار مبالغ ضخمة للاستفادة من نفطها فشبه متعذر إذا وصلت الأسعار إلى أقل أو نحو 50 دولاراً، واستمرت عند هذا المستوى. ببساطة لن يجد المنتجون من يقرضهم ما يكفي لتمويل استثماراتهم.

&

وبإيجاز، من طبيعة الأسواق عامة أن تمر الأسعار باضطرابات، فترتفع الأسعار تارة، وتنخفض تارة أخرى، وقد تكون بينهما فترة استقرار للأسعار تطول وتقصر بحسب الأحوال. ومسيرة أسعار النفط، منذ أولى سنوات استخدامه، توحي بأن الأسعار إذا انخفضت بنسبة كبيرة فإن هذا الانخفاض في حد ذاته يرجح عودتها للارتفاع.

&

والسبب أن مستوى الطلب على النفط يحدده مستوى نسبة نمو اقتصاد العالم أجمع، والذي استمر ارتفاعه في المتوسط منذ الثورة الصناعية في عام 1840-1860 على رغم ما مر به من فترات كساد أو تراجع أو ركود.
&