أحمد عبد المعطي حجازي

&

&
تمنيت لو أن مليونية باريس، التى قامت فيها فرنسا قومة رجل واحد وامرأة واحدة ضد الإرهاب الأعمي، وشارك فيها مع الرئيس الفرنسى زعماء أوروبا وزعماء العالم

ـ تمنيت لو أنها اتسعت لنا نحن المصريين أو لو أننا ملأنا مكاننا الشاغر فيها. فالخطر الذى يواجهه الفرنسيون لا يستهدف الفرنسيين وحدهم ولا الأوروبيين فحسب، بل يستهدفنا ويواجهنا نحن المصريين ونحن المسلمين قبل الأوروبيين وبعدهم. ولا يهدد منا أفرادا بأسمائهم فقط، أو جماعة بعينها فحسب كما فعل مع الرسامين والمحررين العاملين فى مجلة «شارلى إبدو» عقابا لهم على ما رسموا وما كتبوا تنديدا بالجماعات والمنظمات الإرهابية التى تتلثم بالإسلام وتتستر به، بل هو يهددنا جميعا فردا فردا. لأننا خصومه قبل غيرنا من البشر. إما أن يكون الاسلام هو ما نعيشه نحن المسلمين فى بلادنا ونؤمن به ونطمئن إليه، أو يكون هو ما ترتكبه داعش والقاعدة وجماعة البنا وسيد قطب وبوكو حرام. هذا العنف الوحشى، وهذه الكراهية المريضة، وهذا القتل، وهذا الذبح، وهذا السبى، وهذا الهدم، وهذا الوباء المتفشى المتمثل فى هذه الجماعات التى تهدد الجميع وتهدد المسلمين قبل غيرهم وتهدد الإسلام الذى أصبح عليه أن يتطهر من هؤلاء الذين شوهوه ودنسوه ولطخوا وجهه بالدم البرىء وأصبح عليه أن يدافع عن نفسه.

الإسلام مع من؟ مع هذه المسوخ المخيفة الملثمة التى داهمت الصحيفة الفرنسية وأفرغت رصاصاتها فى صدور الرسامين والكتاب مكبرة مهللة؟ أم مع الشيخ مصطفى عبدالرازق تلميذ الإمام محمد عبده طالب العلم فى جامعة السوربون واستاذ الفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية والشيخ الحادى والثلاثين للأزهر الذى كتب عن باريس يقول:


«ليست باريس صنع شعب من الشعوب، ولا عمل عصر من العصور. ولكنها جماع ما استصفاه الدهر من نفائس المدنيات البائدة، وما تمخض عنه ذوق البشر وعقلهم وعملهم من آيات الفن والعلم والجمال:


باريس جنة فيها ماتشتهى الأنفس وتلذ الأعين. فيها للأرواح غذاء وللأبدان غذاء. وفيها لكل داء فى الحياة دواء. فيها كل ماينزع إليه ابن آدم من جد ولهو، ونشوة وصحو، ولذة وطرب، وعلم وأدب، وحرية فى دائرة النظام لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود.


باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس!


وهل غير باريس للحور والولدان، والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة، والشياطين؟»


الإسلام مع من؟ مع قتلة الرسامين والكتاب؟ أم مع هذا الأستاذ العالم المثقف المتحضر؟


جوابنا نحن على هذا السؤال هو أن هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الجريمة الشنعاء ليسوا مسلمين، وليسوا بشرا، والجريمة التى ارتكبوها لم تكن دفاعا عن الاسلام ولا عن نبى الإسلام ولا عن أمة الإسلام. بل هى طعنة مسمومة فى صدر كل مسلم. والكتاب والرسامون ورجال الأمن الذين سقطوا وبينهم حارس مسلم ليسوا وحدهم الضحايا، وإنما أصبح كل مسلم بهذا الفعل ضحية، لأن الجناة المتوحشين ارتكبوا جريمتهم باسم الإسلام. وهنا نستطيع بكل تأكيد أن نقول: لا! فليس هذا هو الإسلام.


الإسلام كما نعرفه أمن وسلام، ورحمة ومودة، وحرية وتمدن، واعتراف بحق البشر جميعا فى أن يفكروا ويعبروا ويجتهدوا ويختاروا ويتفقوا ويختلفوا ويتعايشوا ويتواصلوا ويتبادلوا الخبرة والمنفعة.


الإسلام كما نعرفه هو الحضارة التى شارك فى صنعها العرب والفرس، واليونان والأسبان، والهنود والأفغان، والمصريون والأمازيغ والأفارقة، والمسيحيون واليهود، والمجوس والصابئة.


وبوسع من يريد من الفرنسيين أن يعرف الإسلام على حقيقته أن يعود لما كتبه عنه دى ساسى، وريجيس بلاشير، وجاك بيرك، وأندريه ميكيل، وروجيه جارودى الذى أصبح بعد أن اعتنق الإسلام رجائي، وفانسان مونتى الذى أصبح بعد أن أسلم منصور.


وبوسع من شاء من الأنجليز أن يرجع لما كتبه توماس كارليل عن نبى الاسلام فى كتابه «الأبطال». وبوسع من شاء من الألمان أن يقرأ ما كتبه جوتة عن النبى فى قصيدته «نشيد محمد»:


إنه لينهمر من السحاب مندفعا فى عنفوان الشباب، ولايزال فى انحدار على جلاميد الصخر يتنزى فائرا متوثبا نحو السماء مهللا تهليل الفرح.


لكن الفرنسيين من حقهم أن يسألونى عن أى إسلام أتحدث؟ وهو ما حدث بالفعل، وإن كان ذلك قبل أن تتعرض فرنسا لما تعرضت له فى المقال الذى كتبه جاك بيرك قبل أن يرحل بعنوان «أى إسلام؟» وترجمه إلى العربية بشير السباعي، فى هذا المقال يحذر بيرك من الخلط بين الاسلام من حيث هو دين وحضارة، أى فكر وتراث وحياة ومصير، والاسلام من حيث هو مشروع سياسى تتبناه بعض الجماعات وبعض المنظمات. بإختصار الاسلام الذى عرفه جاك بيرك هو الاسلام. والإسلام السياسى شىء آخر.


غير أن هذه المعرفة التى أتيحت لبيرك لم تتح لغيره من الفرنسيين الذين لم يتعلموا العربية كما تعلمها بيرك، ولم يترجموا القرآن كما ترجمه بلغته الفرنسية الرائعة، وإنما عرفوه فى المسلمين الذين يعيش منهم فى فرنسا ستة ملايين يتمتعون فيها بالكثير، ويعانون فيها الكثير أيضا. لأنهم وقد تركوا بلادهم وانفصلوا عن بيئاتهم واستقروا فى فرنسا بحثا عن شروط أفضل للحياة والمعرفة والعمل لم يتمكنوا من الاندماج فى المجتمع الفرنسى ولم يتشربوا ثقافته.


لقد وقفوا فى المنطقة الفاصلة بين العالمين يحاورون أنفسهم ويسألون عن مصيرهم، ويتعرضون لمن يسألهم من الفرنسيين ولمن يرتاب فيهم ويتهمهم ويعتبرهم خطرا على فرنسا كما يفعل حزب «لوبن» الذى يحرض الفرنسيين على الأجانب وعلى العرب خاصة، ويثير فيهم نزعات عنصرية تختلط فيها الوطنية بالدين. وتحت وطأة هذا الوضع تقل فرص الاندماج والعمل أمام المهاجرين العرب، ويعجز بعضهم أو كثير منهم عن تأمين حياتهم ويتلفتون حولهم يبحثون عن مخرج أو عن سند معنوى لا يجدونه فى هذه الأيام إلا فى العودة إلى الإسلام.


ولماذا لايعودون إلى الاسلام وقد عاد اليهود بمساعدة الانجليز والفرنسيين والأمريكيين والروس ليس فقط إلى اليهودية، بل عادوا إلى بلد أخرجوا منه أهله وزعموا أن الله وعدهم به.


من حق المهاجرين المسلمين فى فرنسا وأوروبا أن يعودوا للاسلام ولكن أى إسلام؟


لو أن العودة كانت للإسلام الحقيقى، إسلام القرآن الكريم والسنة الصحيحة، إسلام المقاصد والغايات الذى يجب ألا يكف عن التجدد والتطور وألا يغلق على نفسه باب الاجتهاد لكانت خيرا وبركة. لكننا نرى أن هذا الاسلام الحقيقى تراجع كثيرا خلال العقود الخمسة الماضية ليغتصب مكانه إسلام الإخوان والقاعدة وداعش وبوكو حرام.


لهذا كنت أتمنى أن نملأ مكاننا فى مليونية باريس لأننا طرف أساسى فى كل ما حدث. والرئيس السيسى على حق حين طالب بثورة دينية نجدد بها الاسلام، ونخلصه مما لحقه، ونعيد إليه قيمه الحية ومثله العليا، ونصالح بينه وبين حضارة العصر، وبينه وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان.
&