عزة السبيعي

منذ اللحظة الأولى لتوالي أخبار هجوم باريس والإعلام العربي يتخذ وضعية الهجوم على تعاليم الإسلام، وطبيعة المجتمعات العربية، وأنماط الشخصية الشرق أوسطية، ودعاة ومجددي وتراث الفكر الإسلامي فردا فردا وكتابا كتابا.
ثم بعد ذلك أصابت الإعلام العربي حالة من الجنون لإثبات براءته وإبداء اعتذاره، في تضارب مضحك نتجت عنه استماتة في إثبات أن هؤلاء المثقفين المزعومين وقائدي الرأي والحكمة هم تشارلي، تشارلي نفسه الفاشل جدا والذي كان يعلم الجميع أنه سيعلن إفلاسه لو صبر عليه قاتله قليلا!
من حقنا كمشاهدين أن نتساءل: إنها مجلة استفزت مليارا ونصف المليار مسلم، فاستجاب بحمق بالغ أربعة أشخاص، أو فلنقل عشرة، وردوا بسلوك إرهابي بشع، فكيف يُدان المليار والنصف الآخرون؟ كيف يصبح حادث فردي إدانة لأمة من البشر في نفس الوقت الذي لا يدان فيه غيرهم مع ارتفاع النسبة بمراحل؟!
هناك عشرات المواقف والأقاويل التي تفضح المثقف العربي، وتثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ينطلق من نفس النقطة التي ينطلق منها من يقف في الجانب الآخر ويلعنه هذا المثقف كل يوم في مقالاته، وهو الشخصية الراديكالية أو المؤدلجة غير الواعية.


من أهم الجمل المستنكرة التي رُدّدت في الأيام السابقة رددها مثقفون عرب يبدو أن سلوكهم الشخصي تجاه الآخر المحتاج لفضلهم هو المنّة؛ حيث يقول أحدهم: كان يجب على هؤلاء المسلمين الشعور بالامتنان نحو فرنسا التي استضافتهم وتفضلت عليهم.


مما يطرح سؤالا - بغض النظر عن المنة وغيرها -: هل تفضلت فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا على هؤلاء؟
لقد استنفدت الدول الاستعمارية خيرات البلاد التي استعمرتها، ونقلت على ظهور أبنائها الهنود والمصريين والمغاربة خيرات بلادهم لصناعة قوة الاقتصاد الغربي، بل إن الغربيين أنفسهم يعلنون ذلك، ولم أقرأ يوما إنكارا منهم لفضل تلك البلاد وشبابها الغارق في الفقر والحاجة الآن على متانة الصناعة والاقتصاد الغربي، فعن أي فضل يتحدثون؟!
الجملة الأخرى التي قدر عليها منظرو إعلامنا الدفاع عن حرية التعبير، أي تعبير هذا؟ إن نفس المجلة سبق أن طردت رسام كاريكاتير انتقد اليهود بطريقة لا تهين شخصياتهم أو تراثهم الفكري، بل تتناول منفعة يتحصل عليها من يتزوج منهم عندما رسم الرسام ابن ساركوزي المتزوج من يهودية وعلق على المنافع التي سيجنيها العريس، فطرد شر طردة، لكنها لم تتوان في نشر رسومات هزت مشاعر المسلمين، الذين توجه أغلبهم إلى المحاكم في سلوك حضاري لم يشر إليه أحد.


لقد دفع الإعلام العربي الناس إلى موجة اعتذار عجيبة اندفعت بدون أدنى تفكير في سؤال بسيط: لِمَ يجب أن أعتذر؟ أنا لم أقتل تشارلي، ولم أسمع يوما أن البابا في الفاتيكان خرج ليعتذر عمّا فعله الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي يقاتل لأنه كاثوليكي ويرفض الوجود المختلف عنه في أيرلندا.


لِمَ تنتفض مؤسسات إسلامية لتقديم واجب الاعتذار عن ذنب لم تقترفه؟ فهؤلاء الشباب وعملهم الأحمق لم يتم باسم الإسلام الذي تعلمه وتمجده هذه المؤسسات، بل اسم إسلامهم هم وشعورهم المندفع الانفعالي.


الأعجب من كل ما سبق هو تصوير العنف الذي حدث كجريمة مستغربة في المجتمعات الغربية التي تترجم كل حالة غضب لدى أفرادها إلى اعتداء عنيف تتردد درجة خطورته بحسب قدرة الشخص وإمكاناته، ففي كل صباح تشرق الشمس على العالم الغربي ستخبرك فيه الصحيفة بأن رجلا قتل امرأة في موقف الباص لأنها سبقته في الدخول، أو طفلا لأنه شتمه، أو حبيبة تركته. استخدام القوي للسلاح طريقة حياة، بل القتل باللفظ والاعتداء بالحرمان مما تستحقه تصرف يكاد يكون عاديا، بل في حالات يستخدم ذلك حتى المثقفين أو أساتذة الجامعات، ما دام القانون لن يطولهم، فيصبح انتحار طالب جامعي من نافذة غرفته المطلة على حرم الجامعة حدثا عاديا، فكيف يتصور مثقفونا أن أربعة شباب حمقى يهزون عرش السلام الأوروبي؟
لقد أوذينا - نحن المسلمين والعرب - بمسرحية إقناعنا بأننا إرهابيون التي كان أهمَّ أبطالها مثقفو وإعلاميو العالم العربي، نحن الذين تربينا على الصبر والتسامح وعدم مجاراة القبيح، وأهدى عالمنا الإسلامي لهذا العالم أهم علماء الفلسفة والطب وعشرات الشعراء والفنانين، وما زال يهدي الجراحين والأطباء والأدباء والشعراء، لكن الإعلام العالمي يرفض إظهاره لأسباب كثيرة نعلم أكثرها.


في الواقع، إن حادثة هجوم باريس لا يمكن أن تكون سلاحا موجها ضد الإسلام، فأي حديث حول الإسلام هو نافع على كل حال.