سالمة الموشي

المسلم اليوم في كل أرجاء الأرض بات يراقب مصيره ويجعل من ذاته ومن العالم موضوعا لسلامه، فمن وضعه على هذا المحك؟ من دفعه إلى أن يكون فردا في ساحة معركة؟ إنه التعصب الديني

&
من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك، فالغاية تبرر الوسيلة، وفرض قيمك الدينية بالدم ضرورة لخدمة الفضيلة. هذا المنطق إلى حد كبير أثبته الواقع فهو المبدأ الذي تقوم عليه الهجمات المتطرفة عادة والتي في كل مرة تريد قول شيء ما للآخر ولكنها تقوله بطريقة مختلفة على مبدأ ماكيافيلي الذي يراهن على أن الغاية تبرر الوسيلة. السؤال المطروح: ما هي المسلمات الأساسية للتعاطي مع القضايا الفكرية حين يتعلق الأمر بالنص والمقدس؟ والإنسان والفكرة؟ إحدى هذه المسلمات على ما يبدو لنا هي مهاجمة الفكر بتصفية الجسد دون مُبالاة بالخطأ الذي ينطوي عليه الأمر، وبالتالي يستمر السؤال عن تبرير السلوك العقلي والدافعي بهذا الخصوص.
في فرنسا كما في أوروبا بشكل عام الآلاف من المسلمين العرب هناك خاضوا مناوشات طويلة مع السكان الأصليين حول فرض هويتهم وملبسهم وقيمهم، وكان حجاب المرأة -النقاب- محورا في هذا الصراع لوقت طويل والذي يبدو في واقعه صراعا فكريا بحتا. وهنا نجد أن فرنسا بالرغم من هذا استمرت ولم تتوقف عن فتح مطاراتها، وجامعاتها للعرب المسلمين وغير المسلمين إيمانا بالتعددية، متجاوزة عن فرض البعض قيمهم على سيادة بلد له قيمه التي يحق له التمسك بها، وكل له أسبابه التاريخية والدينية والسياسية.


اليوم سيكون على المسلمين العرب في فرنسا مواجهة تبعات الغزوة المتوثبة التي قام بها مجموعة المسلحين الذين هاجموا صحيفة شارلي إيبدو، وقتلوا طاقمها الصحفي وحارس المكان المسلم أحمد الذي كان يستغيث بقوله "أنا مسلم"، حيث كان بالفعل مسلما مقيما مع عائلته في فرنسا.


التعصب "حِس تبعي"، ومفهوم "الحس التبعي" ينطلق من عاطفة دينية تغدو ضربا من الوعي الذاتي والتبعية، الأمر الذي لن ولم يمكن المُعتدي من سماع استغاثة "أحمد" الشاب المسلم وهو يستجير بما بقي له من محاولة نجاة من الموت بقوله "أنا مسلم". لم يُصغوا له لأن المنقاد حسب مفهوم "الحس التبعي" غير قابل للمفاوضة أو الرشوة العاطفية مقابل الدفاع عن فكرته وحسه التبعي. إنه مجهز ذهنيا أن يُعرض نفسه للقتل في سبيل فكرته لا خيار له، إنه وحش وفيّ لفكره في تلك اللحظة. نعم لا شيء أكثر ألما وخرابا من مشهد يموت فيه أحدهم لأجل فكرة. هكذا مات "أحمد" وستموت وتتشوه معه الكثير من الأفكار التي كانت تحتضر بالفعل عن قيم السلام والتسامح والإنسانية عند "المسلمين". لا يوجد كائن بشري أكثر خطرا من هؤلاء الذين عانوا من أجل مُعتقد: أعظم المُضطهدين مُجندون ضمن الشهداء الذين لم تُقطع رؤوسهم بعد.


مسلمو فرنسا وبقية العالم الإسلامي عمليا هم الآن أمام مواجهة صعبة نتيجة هذه التبعية الذي يمتثل لها المسلم المتعصب فلا يدرك المعنى البعيد لقتل البشر في عقر دارهم، وكم سيكون هذا عارا عليه وكارثيا على بقية بني جنسه في أرجاء تلك البلاد البعيدة. المترو، المساجد التي سمحت بها فرنسا للمسلمين العرب هناك، الأماكن التي يوجد بها المسلمون العرب تكاد تكون شبه خالية.. خيم الخوف على المكان وتسللت رائحة الموت المؤجل في الأرجاء. هناك -بدون الكثير من الاستنتاجات- سيدفع المسلمون المسالمون الذين يقيمون على الأراضي الفرنسية أو المهاجرون القدامى لها؛ سيدفعون ثمن "فكرة دموية لا تمثلهم" نفذها عدد من المتعصبين.


ما بعد واقعة "شارلي إيبدو" لن يقل وقعه على المسلمين والإسلام في القارة الأوروبية عما أحدثته حادثة 11 سبتمبر من تبعات كارثية على العرب والمسلمين. المسلم اليوم في كل أرجاء الأرض بات يراقب مصيره ويجعل من ذاته ومن العالم موضوعا لسلامه "إما أن أكون أو لا أكون"، إنه أشبه بالصراع لطرد الأشباح والظلام، فمن وضعه على هذا المحك؟ من دفعه إلى أن يكون فردا في ساحة معركة؟ إنه التعصب الديني، وسيظهر هناك على الجانب الآخر الكثير من الإرباك وستتزايد ظاهرة اهتمام المسلم بالتأمل في فلسفة الدين لدى الآخر، وسيتعمق لديه طرح الأسئلة حول التدين وعلاقته بالنفس والعالم والخلاص وطبيعة الرمزية الدينية، وربط الدين بظاهرة التصفية الجسدية وأنساق القيم الثقافية للعرب وللمسلمين.


حادثة "شارلي إيبدو"؛ لن تكون مجرد حادثة بل ستصبح انفجار وعي أكثر من كونها تفجيرا، وبالتالي ستشكل بوادر مهمة للوعي بالخبرة الروحية والدينية لدى جيل بأكمله من المسلمين والغربيين بكل دياناتهم المختلفة. لاتخاذ موقف نقدي تجاه شتى الخبرات الإنسانية/ الدينية التي تترافق مع كل الصراعات الدموية في العالم.


أن تتناول الصحيفة الفرنسية -شارلي إيبدو- فكرة كاريكاتيرية عن "داعش" ودمويته فهذا شأنها، إذ لم تكن المرة الأولى التي تنتقد فيها الحركات الدينية في العالم، فقد تناولت بالنقد كلا من البوذية واليهود والملالي في إيران وغيرها من الصور.


المتعصب المسلم يريد هنا أن يضفي ذلك المعنى على هذا التصور وليقول للآخر: "نحن لا نقتل أحدا"، في الوقت الذي قام بقتل كل من تبنى الفكرة ليعبر له عن كم هو مُسالم. عاقبة التعصب الديني ليست إلا هزيمة معاصرة نشهدها كل يوم في كل مكان من الأرض، يقوم بها المتعصبون ذوو "الحِس التبعي" بسعارهم الدموي الذي طال الأبرياء. إن هدفهم هو التيقن أنك على الضفة التي يقيمون عليها. إنهم يحاولون إصلاح حياة الجميع حول العالم على طريقتهم. وبهذا سيكون مسلمو فرنسا أمام تحد صعب في المرحلة القادمة على أرض فرنسا.
&