رضوان السيد

قال لي مفكر عربي بارز كان يدافع عن وجهة نظره في دعم الرئيس الأسد، ودعم التدخل الإيراني والروسي للاحتفاظ بالأسد ذخيرةً عزيزةً للسوريين والعرب: «كان الجمهور العربي يخاف من الدولة، وهو الآن يخاف عليها»! وما رأيتُ جدوى في مجادلته بشأن مَنْ هو الأحرصُ على الدولة السورية: الرئيس الأسد وأخوه وأبناء عمومته وخالاته، ومدير مخابراته، أم الشعب السوري؟! فقلت: إن شأنك في رفع قصة الأسد إلى مصافّ الدولة السورية وبقائها، هو مثل شأن القومي العربي البارز الذي قال إنه يقف مع الرئيس الأسد حتى لا يصيبه ما أصاب صدّام حسين، فحبكت معي النكتة وأجبتُهُ ساخرًا: إنما هل كان صدّام حبيب إيران وحزب الله بحيث تنصر الأسد من طريق الوقوف بقوميتك العربية مع الميليشيات الإيرانية، التي تقاتل مع الأسد ضد الشعب السوري؟!
إنّ موضوع «الخوف على الدولة» من جانب الجمهور والنخب هو موضوعٌ جادّ وبالغ الأهمية، ولا يجوز أن نتعامل معه بالأساليب الجدالية التي تحفل بها النزاعات السياسية في العالم العربي اليوم. وقد أدركتُ هذا الأمر في نقاشٍ دار بيني وبين بعض المثقفين بعمّان، وبينهم سوريون وليبيون، عندما كنا نناقش مسوّدة تقرير «الإسكوا» لهذا العام عن «العدالة في العالم العربي». كان الليبيون الحاضرون أكثر ذكرًا للدولة وحنينًا إليها، ولمّا تمض خمسُ سنواتٍ على ذهاب «لا دولة القذافي». وقد حاول كاتب أردني التمييز في المسألة، فقال لهم: «أنتم لا تحنُّون إلى دولة القذافي، لأنها لم تكن دولة؛ بل إنكم تحنُّون في الحقيقة إلى الأمن الشخصي على النفس والأُسرة والممتلكات».

وقال آخر: «إنّ الشباب الليبي طَمَحَ لما هو أكثر من الأمن، طمح إلى نظام للعدالة السياسية والقانونية، وكاد شيء من ذلك يحصل، ثم أصابته خيبةٌ نتيجة التردي الهائل في الأوضاع الأمنية، فعاد للحديث عن (الأمن) قانعًا به وإنْ تحت اسم الدولة، وليس تحت شعار العدالة الذي ذاق الأمرَّين نتيجة مطالبته به»!
وكان الاختلاف بين المثقفين السوريين أكثر وضوحًا. لقد أجمعوا على أنّ حراك عام 2011، كان من أجل إحقاق نظامٍ للعدالة، وأنّ النظام الأسدي كان مخطئًا في اللجوء إلى العنف في مواجهة المتظاهرين السلميين. ثم اختلفوا في ما عدا ذلك. فمنهم مَنْ ذهب إلى ضرورة وقف النار الآن بأي شكل حتى لا يبادَ الشعب السوري أو يكتمل تهجيره.

ومنهم من قال: «بل إنّ التضحيات لا يصحُّ أن تذهب سُدى، ولا بد من متابعة النضال وإلا سيحل محلَّ السوريين، الإيرانيون والروس و(داعش) والميليشيات التي استجلبها الأسد وحلفاؤه». أما الشخص الثالث فقال: «لقد هاجرتُ بعد أن أُبيدت عائلتي، ولا أريد العودة، ولا أعرف كيفيةً للخروج من النزاع، وإن كنتُ ما أزال أحِنُّ إلى بدايات الحراك السلمي وشعاراته، وعلى رأسها العدالة والحرية ووحدة الشعب السوري»!
هل تتناقض قيم العدالة والحرية مع قيم أو نِعَمِ الأمن والسلام والسلامة والدولة؟ كل الحراكات السلمية في تسعينات القرن الماضي وما بعد، وفي شرق أوروبا والبلقان وأميركا اللاتينية، حقّقت شيئًا أو أشياء باتجاه الحرية والعدالة. أمّا في بلدان الحراك العربي، فإنّ تلك البلدان صارت أقلَّ أمنًا وأقلَّ عدالة، وأبعد عن ممارسات الدولة الحافظة للحريات الأساسية، والساعية لتحقيق العدالة والإنصاف. الكاتب اليميني الأميركي من أصل هندي فريد زكريا، اعتبر ذلك ناتجًا عن الاستثناء العربي والاستثناء الإسلامي. فالديمقراطية تحتاج إلى ثقافةٍ لا يملكها الجمهور العربي، وتحتاج إلى قيم التعددية والاعتراف بالآخر، وهي صفاتٌ وسِماتٌ لا يملكها الجمهوران العربي والإسلامي. وقد ردَّ عليه كثيرون، استدلُّوا في ما استدلُّوا به بسلمية الحركات العربية عام 2011. ثم شاع العنف في كل مكان: ظهر عنف الأنظمة، وقارنه أو تفوق عليه تبعًا لتعدد الأمكنة عنف «الجهاديين». وهكذا فهناك فريقان عاديا الحراكات الشعبية، وكلاهما لا يقول بالعدالة والحريات. الفريق الأول هو فريق الأنظمة وحلفائها وميليشياتها، والذي اتهم تلك الحراكات منذ البداية بالعنف والإرهاب واستباح لنفسه نشر الرعب والخراب باسم مكافحتهما. أما الفريق الثاني، فقال بخلاف الأنظمة، وبخلاف الحراكات الشعبية، إنه يملك تصورًا آخر لإقامة نظامٍ للعدالة هو الدولة الإسلامية! وما تصارع الفريقان في الحقيقة، فريق الأنظمة المسيطرة، وفريق «الجهاديين»؛ بل انصرف كلٌّ منهما إلى قتل وتهجير الفريق الثالث، فريق الحرية والعدالة والسلم.


كيف المخرج من هذا المأزق؟ إنّ الواضح أنّ الصراع ليس صراع ثقافةٍ ولا قيم. فالنظامان السوري والعراقي على سبيل المثال يريدان الاحتفاظ بالسلطة. والميليشيات «الجهادية» تريد انتزاع السلطة من المسيطرين. ومن الطبيعي أن يرفع كل طرفٍ الشعارات التي تجلب إليه الأنصار، بحسب المرجعيات التي ينتمي إليها. إنما الدليل على قوة تلك الشعارات أنَّ معظم الفرقاء (باستثناء «داعش») يشاركون في رفعها، ويتصارعون ظاهرًا عليها. وذلك مثل الدولة والوحدة والوطنية والأمن والسلم والاستقرار وحتى العدالة. وهذا يزيد من الاعتقاد بأنّ المشكلة ليست مشكلة ثقافةٍ ولا قيم مختلفة. وحتى أولئك الذين يريدون تطبيق الشريعة في الدولة (الإسلامية)، يعتبرون أنّ الشريعة هي نظام العدالة الكامل، رغم اختلاف المفهوم بالتأكيد!
ولنمض قُدُمًا في المسار نفسه: هل تتصادم قيم الحرية والعدالة والسلام مع الأمن والاستقرار.. والدولة؟ إنّ الواجبات البديهية للدولة، أي دولة، تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة. فحتّى كُتّاب «نصائح الملوك» يقولون للملك: إن لم تحقق العدالة، فسيضطرب عليك الناس، وستفقد سلطتك. بل إنّ «احتكار الدولة للعنف الشرعي» قبل الدولة القومية وبعدها، ليس مشروطًا بتحقيق الأمن وحسْب؛ بل والاستقرار أيضًا، ولا استقرار من دون عدالةٍ قضائية، وأُخرى قانونية، وثالثة سياسية. وقد كان هناك من المفكرين من جعل «العدالة» قيمةً مرجعية، وجعل القانون نظامًا ومجالاً لإنفاذها أو إحقاقها أو تطبيقها.


يخاف الناس على أمنهم فيلجأون للدولة الحامية بالقانون. وعندما يظهر الانطباع بأنّ الدولة لا تحمي، بل ولا تعدل، يضطرب الأمن، ويصبح القانون أيضًا أداة قمع. وهكذا فصحيح أنّ هناك قيمًا وممارسات، لكنّ الدولة هي المؤسسة الوازنة والمتّزنة والمتوازنة.

وإن لم تكن كذلك، يظهر التناقض، بين القيم والممارسات، ولا يبقى هناك مجالٌ للتوفيق بين العدل والأمن، وبين الدولة والنظام!
قال المفكر السوري المعروف برهان غليون، في كتابه ذي العنوان الدال «المحنة العربية.. الدولة ضد الأمة» الذي أُعيد طبعه مؤخرًا: إنّ العنف السلطوي دمَّر أول ما دمَّر إحساس الناس بالأمن فكيف بالعدالة؟ لا تتناقض القيم، وإنما يهدِّم العنف نظام العيش فينهدم معه نظام القيم!
&