مشاري الذايدي

بوفاة السياسي العراقي أحمد الجلبي، المثير للجدل، تطوى صفحة مهمة من تاريخ عراق ما بعد صدام حسين.


الجلبي هو عنوان «العراق الأميركي» كما وصف السياسي والإعلامي العراقي حسن العلوي، في كتاب ممتع له. هذا الأرستقراطي العراقي الذي صرف جلّ عمره السياسي معارضا لنظام البعث في بغداد، والذي تلقى تعليمه العالي في الولايات المتحدة في تخصص الرياضيات، قدر له أن يكون مؤثرا بعمق على ما نراه اليوم في العراق من بنى وهياكل سياسية، وأيضًا في توجيه الإرادة الأميركية نحو السيطرة على العراق ثم «الارتجال» في تدبير شأن العراق.


لا ريب أنه رجل شديد الذكاء والتميز، لديه قدرة خاصة على البقاء في الأزمات والنجاة منها، وظل حتى آخر دقات قلبه الذي توقف الوقفة الأخيرة إثر نوبة قلبية، يعمل في السياسة، لكن ليس ضمن السقف العلماني الوطني الذي كان يقدم نفسه به سنوات التسعينات وبداية الألفية، تحت شعار «المؤتمر» الوطني العراقي، بل صار مجرد «ناشط» سياسي عراقي شيعي، ضمن الأحزاب الأصولية الشيعية، وكانت آخر محطة له المجلس الإسلامي الأعلى، جماعة الحكيم.


سيقال الكثير عن نجاحات وإخفاقات أحمد الجلبي في السياسة، لكن بتقديري أن أكبر كارثتين للجلبي لوثتا الحياة السياسية العراقية هما تأطير المذهبية السياسية في العراق عبر اختراع فكرة «البيت الشيعي»، وأيضًا فكرة حل الجيش واجتثاث البعث، وهو ما كرس النهج الثأري الطائفي السياسي في العراق، وهذا هو مصدر الوباء السياسي في العراق اليوم. شكل الحاكم الأميركي سيئ الخبرة، بول بريمر، لجنة بمساعدة أحمد الجلبي سماها «لجنة اجتثاث البعث»، وتم تغيير الاسم في ما بعد إلى هيئة المساءلة والعدالة.


بعض الأخطاء السياسية ذات أثر ممتد لأجيال، مثل الإشعاعات النووية المتسربة، التي تحتاج لعقود من السنين حتى تبرأ منها الأرض ويتعافى منها الهواء، وكذلك كانت «إبداعات» الراحل أحمد الجلبي في العراق.
طويت صفحة من تاريخ المنطقة بوفاة الجلبي، وليس تاريخ العراق فقط، فنحن أمام حالة سيلان وهيجان في حدود الدول وطبيعة الحكم وثوران للهويات الدينية والقومية والطائفية، لم تشهد لها المنطقة مثيلا منذ الحرب العالمية الأولى. بمناسبة ذكر الحرب العالمية، فقد لاحظ في مؤتمر عقد بواشنطن 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رئيسا المخابرات الفرنسية والأميركية أن ما يجري في منطقتنا هو مقدمة لتغيير خريطة الشرق الأوسط، وأن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية قد تغيرت.


هكذا توقعوا، وكم مرة أخفق الغرب، غير أن الأكيد هو أن الجلبي كان من حطام مرحلة التحولات هذه.
&