محمد كركوتي

" ليس مقبولا أن تكون بلدان الاتحاد الأوروبي مقسمة بين من يدفعون ومن يأخذون"

جان كلود يونكر - رئيس المفوضية الأوروبية

يستطيع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون هذه الأيام، أن يستمتع بعرض شروطه على الاتحاد الأوروبي لإبقاء بلاده ضمن هذا الاتحاد. ويمكنه أيضا، أن يعرض الشروط بأشكال متنوعة دون توتر أو تشنج، مستغلا الفوضى الراهنة على الساحة الأوروبية الناجمة عن كثير من العوامل، من بينها بالطبع أزمة اللاجئين المتصاعدة وتبعاتها الاقتصادية والإنسانية، إضافة إلى الأزمات المالية التي تمر بها بعض بلدان منطقة اليورو، بما فيها دول ذات قيمة اقتصادية كبرى على مستوى العالم. إلى جانب غياب قيادات أوروبية تتمتع بقيمة معنوية إلى جانب موقعها السياسي. عوامل كثيرة أخرى، تجعل كاميرون يشترط، وهو في المنطقة الآمنة من تبعات تدفق اللاجئين، والتهديدات التي تتعرض لها العملة الأوروبية. رغم أن الاستفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي الذي وعد به البريطانيين لن يتم قبل نهاية عام 2017.

يعيش ديفيد كاميرون أسعد أيام حياته السياسية هذه الأيام. على الجانب الداخلي لا توجد قيادة معارضة أمامه يمكن أن تؤخذ على محمل الجد، بوصول جيرمي كوربين زعيما صادما لحزب العمال، وعلى الصعيد الخارجي، ينعم رئيس الوزراء البريطاني بعد انضمام بلاده إلى اليورو، ويتمتع أيضا بأن بلاده ليست ضمن اتفاقية "شنجن" لفتح الحدود. ويستمتع بصورة أو بأخرى حتى بالخلافات التي دبت بين الحلفاء الحقيقيين ضمن الاتحاد الأوروبي، بل في منطقة اليورو نفسها. في ظل هذا المشهد، يعرف كاميرون وكبار أركان حكومته، أن الوقت لا يمكن أن يكون مناسبا أكثر مما هو حاليا، لتفعيل التفاوض حول بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي. أوروبا الآن مثل الملاكم في مرحلة ما قبل الانهيار، يمكن حتى لنسمة هواء إيقاعه أرضا.

هذا لا يعني بالطبع أن رئيس الوزراء البريطاني من أولئك الذين يتمنون الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل على العكس تماما هو من أنصار البقاء في الاتحاد، لأسباب أعلنها وكررها في أكثر من مناسبة، بأن من مصلحة بلاده البقاء في الاتحاد. في الواقع يقود كاميرون ووزير ماليته جورج أوزبورن حملة حقيقية لتقليم أظافر التيار المؤيد للخروج من الاتحاد الأوروبي قبل الاستفتاء، وعملية "التقليم" هذه ليست محلية أو ذاتية، بل هي أيضا أوروبية، تتجلى في تعاون البلدان الأوروبية المؤثرة في الوصول إلى حلول وسط مع المملكة المتحدة حول العضوية في الاتحاد المذكور. والخطير في الأمر، أن التيار المناوئ هذا يكمن في داخل حزب المحافظين الحاكم نفسه، إلى جانب طبعا، أولئك الذين لا يزالون يعتقدون أن بريطانيا تقود العالم!

حسنا تريد بريطانيا بحكومتها الراهنة حلولا وسطا للبقاء، وإذا ما نظرنا إليها فإنها لا تدخل ضمن إطار الوسط على الإطلاق. ماذا يريد كاميرون؟ يريد ألا تفرض قرارات منطقة اليورو وتكاليفها على بريطانيا. وماذا ستقدم المملكة المتحدة؟ المساعدة على تعزيز العملة الأوروبية الموحدة! فقط لا غير! بمعنى آخر، لا دخل لبريطانيا في الالتزامات المالية للاتحاد، وبالتالي ستتوقف عن نقض القرارات التي لا تعجبها عادة، في المقابل، ستدعم بريطانيا اليورو، خصوصا أنه يمر بمرحلة تاريخية من الضعف، بل والتشكيك في استمراره، خصوصا في أعقاب تفجر أزمة الديون اليونانية الشهيرة، ومشاكل مالية متتابعة في غير بلد ضمن منطقة اليورو. لندن تنشر أيضا الذعر في أوساط الأوروبيين الحريصين على بقاء الاتحاد واليورو، بترويج تزايد أعداد الرافضين للاتحاد في بريطانيا.

تبحث بريطانيا في الواقع عن تعديلات جديدة ليس لقرارات أوروبية بل للمبادئ ودستور الاتحاد الأوروبي نفسه. وهي تعرف أن بإمكانها الحصول على مرادها، أو في أسوأ الأحوال، الوصول إلى أقرب نقطة إلى ما تسعى إليه. ليس مهما على الساحة البريطانية الجانب المعنوي والتاريخي لأوروبا، المهم الآن ألا تشكل القوانين الأوروبية ضررا على الاقتصاد البريطاني، على اعتبار أنه خارج منطقة اليورو. وتخشى لندن بصورة خاصة على وضعيتها التاريخية بالفعل في مسألة الخدمات المالية. فالقطاع المالي يشكل ما يقرب من 8 في المائة من الناتج المحلي البريطاني. دعك من المصير المشترك، والتاريخ الذي يحتوي على قواسم مشتركة. وربما ساهمت جغرافية بريطانيا في برود مشاعر هذه الجزيرة حيال أوروبا ككل.

وفي كل الأحوال، لا شك في أن الظروف مواتية للندن الآن لإطلاق مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي حول مصيرها فيه. وزير المالية أوزبورن قالها بوضوح في قلب ألمانيا. ماذا قال؟ "تحصلون على يورو أقوى، ونحن نضمن أن يكون صوت الاسترليني مسموعا عندما ينبغي أن يكون مسموعا، اتفاق يكتب في قانون". والنقطة الأخيرة هي لب المسألة كلها، أن يدخل الاتفاق الذي يمكن التوصل إليه في إطار قانوني، الأمر الذي سيريح بريطانيا على مدى عقود مقبلة من المناوشات والتدخلات الأوروبية، ويعفيها حتى من "نكد" أوروبا. تبدو بريطانيا قوية في هذا المشهد. ولكن هل ستكون هكذا إذا ما أقدمت فعلا على الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ بالتأكيد لن تكون قوية، بل ستتحول إلى بلد هش اقتصاديا.