&صاحب مصطلح «القوة الناعمة» في كتاب جديد يثير أصداء واسعة

& هاشم صالح


على عكس ما يشاع لن نتخلص من هيمنة الإمبريالية الأميركية عما قريب. كنا نعتقد أن الصين ستحل محلها بعد سنوات قريبة أو حتى حلت بالفعل، لكن أمانينا لن تتحقق بمثل هذه السرعة على ما يبدو، فالهيمنة الأميركية على العالم ستظل مستمرة حتى عام 2040، بل حتى عام 2050، كما يقول لنا البروفسور الأميركي المعروف، جوزيف ناي، في كتابه الجديد: «هل هي نهاية القرن الأميركي؟»، وهو كتاب أحدث ضجة كبرى، ولقي أصداء واسعة في الولايات المتحدة بعد صدوره قبل بضعة أشهر. ومعلوم أن جوزيف ناي هو صاحب المصطلح الشهير عن «القوة الناعمة» وتمييزها عن «القوة الخشنة» للأمم والشعوب، فليست الأساطيل الحربية هي وحدها التي تشكل قوة الدول المعاصرة وإنما الإشعاع الثقافي أيضا.

للتعريف به بشكل سريع نقول إن جوزيف ناي هو أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد وأحد أهم الاختصاصيين في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأميركية، وقد شغل منصب نائب وزير في عهد كارتر، ثم منصب سكرتير مساعد لشؤون الدفاع في عهد كلينتون، وبالتالي فعنده خبرة عملية، بالإضافة إلى ثقافته النظرية، وبالأخص في حركة التاريخ العميقة. بالمناسبة كل شخص غير مختص بفلسفة التاريخ لا أعده مثقفا. هذا قرار اتخذته من زمان ولا مرجوع عنه، لماذا؟ لأنه لا يرى إلا أبعد من أنفه أو عصره، وكل مثقف لا يرى إلا أبعد من عصره لا يمكن أن يكون مفكرا، باعتراف جان جاك روسو نفسه.. ولذلك قد تقرأ يوميا عشرات المقالات والتحليلات للمثقفين أو الصحافيين العرب دون أن تجد إضاءة واحدة! لحسن الحظ هناك استثناءات واعدة.

المهم أن هذا الخبير العالمي يقول لنا إن كثيرين تنبأوا عدة مرات بأفول القوة الأميركية على مدار العقود السابقة، لكن في كل مرة كانت تخطئ تنبؤاتهم، وتظل أميركا القوة العالمية الأولى بشكل لا يقارن ولا يقاس. ففي الخمسينات من القرن الماضي عندما وصل الروس إلى القمر قالوا لنا إن أميركا انتهت، وإن الاتحاد السوفياتي سبقها كليا، وكانت النتيجة العكس. وفي الثمانينات عندما حققت اليابان تفوقا اقتصاديا ومصرفيا هائلا قالوا لنا إن أميركا انتهت وحلت محلها اليابان كقوة اقتصادية وتكنولوجية عظمى.. والآن يقولون لنا نفس الشيء عن الصين.. إلخ. كل هذه تكهنات متسرعة لا تصمد أمام الامتحان، فأميركا لا تزال حتى الآن على رأس الدول فيما يخص النمو السكاني، والتكنولوجيات الجديدة، والتربية والتعليم، والاختراعات.. إلخ. وفيما يخص القوة الناعمة فإن الجامعات الأميركية لا تزال هي الأفضل عالميا، فمن بين أفضل 20 جامعة في العالم هناك 15 جامعة أميركية! وبالتالي فأميركا في جهة، والعالم كله في الجهة الأخرى، وحتى أعداء الإمبريالية الأميركية يفتخرون بأنهم يرسلون أولادهم إلى هناك للتخرج في جامعات العم سام. نتحدث هنا عن الأغنياء العرب بالطبع بل وغير العرب، وسينما «هوليوود» لا تزال مهيمنة على العالم على الرغم من منافسة السينما الهندية وسواها لها، فالثقافة الأميركية مبدعة وتواصل الابتكار باستمرار، وهذا يقلص إلى حد ما من السمعة السيئة لأميركا بصفتها دولة الإمبريالية والهيمنة والتوسع والعدوان وإخافة الآخرين، فالقوة الناعمة، أو الإشعاع الثقافي، يخفف إلى حد كبير من العجرفة الأميركية أو ما يعتقده الآخرون كذلك.

والآن لننتقل إلى القوة الخشنة.. هل تعتقدون أن الصين قادرة على مواجهة أميركا عسكريا؟ إنكم واهمون، فميزانية وزارة الدفاع الأميركية متفوقة على ميزانية الصين بأربع مرات. صحيح أن الصين زادت مصاريف الدفاع والتسلح بنسبة 10 في المائة منذ عشر سنوات، لكن أمامها شوطا طويلا قبل أن تلحق بأميركا.. هل تعلمون أن الصين لا تملك إلا حاملة طائرات واحدة أما الولايات المتحدة فتملك أكبر وأضخم عدد منها في العالم، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ في قوة الصين ونهول، كما يحلو للبعض أن يفعل. صحيح أن العدد لصالح الصين بسبب المليار ونصف المليار صيني تقريبا، ولكن ينبغي العلم بأن الرئيس الصيني خفض قواته العسكرية بنسبة ثلاثمائة ألف جندي، وهذا يعني أن الجيش الصيني ضخم عدديا، لكن فاعليته ليست بمستوى ضخامته، فهناك الكمية وهناك النوعية، ولا أحد يستطيع القول بأن نوعية الجيش الصيني تعادل نوعية الجيش الأميركي وخبرته وفاعليته.

والآن لنتحدث عن القوة الاقتصادية، ولنقارن الآخرين بأميركا.. لا ريب أن الصين حققت نجاحات كبرى على هذا الصعيد في السنوات الأخيرة، وتستحق كل تقدير، لأنها أخرجت الملايين من شعبها من جحيم الفقر، وهي الآن أصبحت الاقتصاد العالمي الثاني بعد أميركا، والبعض يقول بأنها قد تتجاوز أميركا نحو عام 2030 إذا ما استمر نموها الاقتصادي الحالي على نفس الوتيرة 7 في المائة، لكن خبراء آخرين يقولون لنا إن ذلك لن يتحقق قبل 2040 أو 2050، لأن معدل النمو الاقتصادي الصيني سينخفض إلى 3 أو 4 في المائة في السنوات المقبلة، لكن حتى لو أصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم من حيث الضخامة والحجم فلن تكون الاقتصاد الأكثر تقدما وفاعلية.

ينبغي العلم بأن عدد الشركات متعددة الجنسيات أو العابرة للقارات يصل إلى خمسمائة في العالم حاليا، من بينها نحو خمسين شركة لأميركا وحدها، ومن بين أكبر خمس وعشرين شركة عالمية تملك أميركا تسع عشرة وحدها، وبالتالي فالهيمنة الأميركية ساحقة في هذا المجال. يضاف إلى ذلك أن سكان الصين أصبحوا يشيخون بسبب سياستها السكانية القائمة على الحد من النسل، وبالتالي فالصين عندها مشكلات حقيقية، ومن أهمها نظامها السياسي الديكتاتوري؛ نظام الحزب الواحد الذي لا يعرف معنى الديمقراطية والتناوب على الحكم.. فإلى متى ستظل قادرة على الاحتفاظ بهذا النظام الشيوعي سياسيا والرأسمالي اقتصاديا؟ يوجد هنا تناقض هائل غير محلول وقد يفجر الصين لاحقا.

نضيف أن الاقتصاد الأميركي كان يمثل 22 في المائة من الاقتصاد العالمي عام 2000، وقد ينخفض لاحقا إلى نسبة 18 في المائة، بسبب صعود البرازيل بشكل خاص.

والآن لنتحدث عن شؤون الطاقة والبترول.. قبل عشرين سنة كانوا يقولون بأن أميركا ستصبح عالة على بترول الآخرين أكثر فأكثر، لكن أصبح الآن واضحا أنها قد تتوصل إلى الاستقلالية الكاملة في هذا المجال عام 2020 أي غدا أو بعد غد، وبالتالي فحتى هنا نلاحظ أن أميركا متفوقة وتملك أوراقا جديدة لم تكن في الحسبان.. وعلى أي حال فإن الدكتور جوزيف ناي يعتقد أن أميركا ستظل القوة العظمى الأولى حتى بعد عام 2050.

لا ريب في أنها لن تكون الوحيدة كما عليه الحال حاليا، وإنما ستكون هناك قوى عظمى أخرى مثل الصين والهند والبرازيل.

هناك نقطة أساسية؛ وحدة الاتحاد الأوروبي، كان بإمكانه أن يهدد هيمنة أميركا على العالم لو أنه كان موحدا سياسيا، لكن من المستحيل أن يتوحد، لأنه مشكل من عدة أمم مختلفة مثل الأمة الفرنسية والأمة الألمانية والأمة الإنجليزية.. إلخ، يضاف إلى ذلك أن الاتحاد الأوروبي ليس عدوا لأميركا ولا يمكن أن يكون، لماذا؟ لأنه ينتمي إلى نفس النطاق الحضاري الذي يدعى الغرب، فالقيم الأساسية مشتركة بين الطرفين.

ينبغي ألا ننسى أن «أميركا هي بنت أوروبا» كما يقول الجنرال ديغول، وإن تفوقت البنت على الأم لاحقا.

وأخيرا.. يرى البروفسور جوزيف ناي أن الخطر على أميركا لا يأتي من جهة الصين، كما يتوهم كثيرون، وإنما من جهة الإرهاب الأصولي والهجوم الإلكتروني.

هنا تكمن مشكلة أميركا لعشرين وربما لخمسين سنة مقبلة، فحقد «داعش» و«القاعدة» وكل الجماعات الراديكالية عليها كبير جدا، وبالتالي أميركا تخشاها أكثر من الصين بمرات. نقول ذلك وبخاصة أن القيادة الصينية تظل عقلانية في تصرفاتها وتحسب حساباتها بدقة ويمكن التفاوض معها.. الصين لا تمثل خطرا وجوديا على أميركا مثل ألمانيا «الهتلرية» أو الاتحاد السوفياتي لستالين.. وبالتالي فلن تكون هناك حرب باردة مع الصين.

في الصين هناك فلسفة كونفوشيوس وحكمته العميقة، وهي تطبع العقلية الصينية على الرغم من الشيوعية، الصين ليست متهورة.. الصين ليست صدام حسين ولا «بن لادن» ولا «البغدادي»!

أما مع «داعش» فمن يستطيع أن يتفاوض؛ إما أن يفجروك وإما أن تفجرهم، ولا يوجد حل آخر.
&