غادة السمان

&كنت في بيروت يوم الانفجار الشرير في «برج البراجنة» الذي ذهب ضحيته عشرات الأبرياء وبكى لبنان كله ذلك.


كنت لحظة الانفجار قرب الحي إياه ولم أخف ولكن ارتجفت سيارتي وأنا أقودها، كما لو هز الأرض زلزال، وهكذا خيّل إليّ وحمدت الله حين عدت إلى بيتي مزودة بجسدي كاملاً، كما سبق ونجوت طوال معايشتي لعشرة أعوام حرباً لبنانية، حيث شاهدت الناس يموتون في الحديقة أمامي وأنا عاجزة عن الاقتراب منهم لاحتضانهم لحظة احتضارهم بسبب (القناص) أو القصف المجنون.
قالت لي إحدى صديقاتي البيروتيات: أنت مجنونة.. تأتين إلى بيروت بدلاً من عيش الأمان في بيتك الباريسي.
قلت لها: لست وحدي المجنونة.. العالم بأكمله مجنون. أنا مدمنة وطن ولا شفاء لي وأينما كنت سأعود.
وفي اليوم التالي علمت بالمجزرة في باريس أيضاً، وأنا أحزم حقيبة العودة!
ولأنني خريجة جامعة الحروب الأهلية عدت دونما خوف.. (وعلام الخوف؟) سنموت جميعاً ذات يوم! ولكننا كدنا ننسى قيمة أن نحيا في خضم تمجيد (حضارة) الموت!
باريس رافضة ومشمئزة وحزينة


فقط حين شاهدت وجه صديقتي الفرنسية التي تستقبلني دائماً في مطار «رواسي ـ شارل ديغول» الباريسي ولاحظت ذعرها مما اقدمَت عليه، أي من مغادرتها بيتها لاستقبالي بعد 24 ساعة على الاعتداء الإرهابي في باريس (الذي خلف حوالي 150 قتيلا)، فقط لحظتها أدركت ان باريس، كارهة وحزينة ومذعورة مما لم تألفه، مثلنا في لبنان، من قتل أرعن أهوج مسعور.
وقد أعلنت فرنسا عن رفضها المشمئز في الأيام التي أعقبت المذبحة، وقوفاً دقيقة صمت هنا وهناك، ومحافل تكريم للضحايا وتعاطفاً مع عائلاتهم وتذكيراً بالقيم الفرنسية الإنسانية ومقالات منددة بقلم كبار مبدعيها في الحقول كلها. باختصار، باريس كانت مذعورة حقاً بسبب ليلة الجمعة 13، وخائفة من تكرار ذلك وكنت فقط حزينة، بعدما خضت دورة تدريبية على الموت الساخن وكدت أنسى أن من حق المرء أن يحيا هدية الخالق له، ولا يحق لأحد اختطاف حياته و»ثقافة» الموت ومصانعها لا تقود إلى بعث الأمجاد بل إلى الاضمحلال البشع المقيت.
نلعق جراحنا وندفن موتانا ونصمت!
كل ما دار بعدها، منذ وصولي إلى وكري الباريسي كان تذكيراً لي بقيمة حياة أي إنسان، بعدما كدنا نعايش بشاعة الألفة مع الموت في لبنان، حيث صار من واجب بعض الأمهات الزغردة في مأتم الابن الذي يدعونه شهيداً، وهو في حقيقة الأمر ضحية. صوت «زغردتها» يشبه عويل الانتحاب، لكنها مغلوبة على أمرِها كلبنان كله!.
وتلك الألفة مع الموت الظالم هي التي تسهل (للدواعش) في الداخل والخارج مهماتهم.. وللدواعش أسماء عديدة قد تبدو من الخارج مختلفة، لكنها تتبع المنطق ذاته وتسعى كلها إلى الموت: موتنا! ونحن لم نعد نثور عليهم، بل نجد لهم الأعذار!! ربما خوفا من مواجهتهم وبعضهم مدجج بالكراهية أو شبق السلطة أو السلاح أو كل ما تقدم.
في لبنان نلعق جراحنا وندفن موتانا ونذهب مثلاً إلى حفل انتخابات ملكات الجمال.. في «كازينو لبنان»، صبايا كل ما فيهن ينادي بالحياة في مواجهة «ثقافة الموت». نعيش انتخابات ملكات وانفجارات موت متبادلة.. أميرات جمال وملوك بشاعة في الحقل السياسي والعام.
الهروب إلى انتخابات ملكات الجمال أو الاحتفال بذكرى فريد الأطرش في اليونيسكو ـ بيروت بفضل «لجنة رواد الشرق» ووزارة الثقافة، أو الذهاب إلى تظاهرة سينمائية لبنانية جديدة في صالة «سينما متروبوليس» ـ أمبير صوفيل ـ الأشرفية بيروت، أو الذهاب إلى معرض «مجموعة الجوزاء» في غاليري «جانين ربيز» بالرويشة أو الذهاب إلى عرض مسرحية «فكرن لعبة» على مسرح الجميزة/الاشرفية/بيروت عن نص لأحد رواد «مسرح اللامعقول» أوجين أونيسكو، هذا كله يعني ببساطة الهرب من بشاعة ما يدور إلى الفن الراقي، وإعلان رفض ولو بصوت خافت!.
الصراع بين دفق الحياة ومصانع الموت
كان كل ما يدور في بيروت جوهره رفض تحويل الوطن إلى جوائز ترضية أو ساحة لحروب المنطقة.. ورفض مسح ذاكرة عشق النبض الحي والإبداع والحرية الفكرية.
والذين كانوا مثلي يجدون في انتخابات ملكات الجمال امتداداً لـ»سوق الجواري» الغابر، كما في الاحتفال الراقص «بالمبتدئات».. الذي كنت أجده دخيلاً على حياتنا العربية وظاهرة مستوردة، أمثالي صاروا يرحبون بذلك كفعل مقاومة (للتيئيس) وضد برمجة الأحياء على مقاس ثقافة الموت الانتحاري شبه الإرغامي.
لا للنسيان، لا للغفران
في بيروت مر التفجير المروع الحزين على حافة النسيان لأننا ألفنا هذا النمط من الموت العدواني انفجاراً بعد آخر، قتلاً ظالماً بعد آخر، عقداً بعد آخر، ظلماً بعد آخر من حملة السلاح ومهربي المتفجرات، حتى كدنا نضيع الخيط بين المجرم والضحية لأن المجرم يحاول دائماً اقناعنا بأنه صوت الحق وعلينا شكره لقتله لنا.. وهكذا تشابه الجلاد مع ضحاياه.
في باريس الخيط واضح بين القتل والحياة.. ولذا توضع الأزهار على الأرصفة، حيث تمت المجزرة وتشعل الشموع ويأتي الناس لتحية أرواح أبرياء سقطوا، ويقيم رئيس الجمهورية أولا حفلاً تأبينياً رسمياً للضحايا، أما نحن فنلصق الكمامات على جراحنا وندفن موتانا ونذهب إلى حفل طرب لننسى، بل نرقص فوق الموائد إذا لم يطح بنا انفجار ما.. فقد تساوى الموت والحياة عندنا، وقيمة المرء لم تعد تساوي أكثر من ثمن رصاصة.. والضحايا يعيشون التواطؤ المستسلم مع الجلاد.. تجدل حبال مشانقنا ونحيط بها أعناقنا ونصافح القاتل قبل ان يتكرم باغتيالنا.. كأننا شعب أراد الوفاة.. وهكذا، ودعتني بيروت بانفجار، واستقبلتني باريس بانفجار.
وتلك باختصار قصة حياتي وقصة حياة الكثير من العرب في أقطار عديدة هذه الأيام!
صرنا ننسى أن الاستسلام هو الموت الأول!
&