عبد المنعم سعيد

عنوان المقال فيه بعض من الاستعارة من كتاب الصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد «حروب أوباما» الصادر عام 2011. وفي الحقيقة أن الكتاب لم يكن عن حروب خاضها الرئيس الأميركي، وإنما عن الكيفية التي اتخذ بها قرار الحرب في أفغانستان. الموضوع هو القرار، وليس كيف جرت الأمور في أفغانستان، التي قال عنها أوباما عندما كان مرشحًا للرئاسة إنها الحرب الوحيدة التي يجب على أميركا خوضها، لأن في أفغانستان جرت عملية الإعداد للهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على مواقع عدة في نيويورك وواشنطن العاصمة بلغ ضحاياها 3000 ضحية، وتعدت تكلفتها المالية تريليون دولار. كان ذلك جاريًا في العادة على سبيل المقارنة مع الحرب التي لم يكن واجبًا على أميركا خوضها، ومع ذلك خاضتها في العراق، وتعدت التكلفة فوق البشر والضحايا تريليونين من الدولارات. وعلى أي الأحوال، وباختصار، فإن الحربين في العراق وأفغانستان خلقتا لدى أوباما عقدة من الحرب في الشرق الأوسط، وخوفًا دائمًا من الاستدراج إلى مستنقع يستنزف القدرات الأميركية دون طائل. ورغم أنه انتهى إلى ضرورة «التصعيد» في أفغانستان بزيادة عدد القوات 30 ألف جندي، فإنه مع هذه الخطوة قرر أيضًا أن القوات الأميركية سوف تبدأ الانسحاب اعتبارًا من شهر يوليو (تموز) 2011.


تفاصيل ما جرى ليس هذا مكانه، ولكن قرار أوباما يعطينا القدرة على فهم وإدراك الرجل في استخدام القوة المسلحة، فهو ليس ضد استخدامها بالمطلق، وإنما مع استخدامها عندما تكون مفيدة من ناحية، وبحيث لا تنتهي إلى تورط غير محسوب من ناحية أخرى. قدر الرئيس الأميركي، وربما قدرنا أيضًا أن نوعية الحرب التي كان عليه خوضها، تختلف كثيرًا عن كل أنواع الحروب التي عرفتها البشرية أو تصورتها. فهناك الحرب النووية بين القوى العظمى، وهذه لفداحتها لم تعد ممكنة، ومن ثم لم يتم الانتصار فيها بالقتال، وإنما جرى ذلك بالردع. وهناك الحروب التقليدية على غرار ما جرى في الحروب العالمية وهذه لم تعد ممكنة بين القوى العظمى، لأنه لا أحد يعرف ما إذا كانت سوف تبقى على حالها تقليدية، أو أنها سوف تتحول إلى نووية يفنى معها الجميع. وعلى مستوى العالم كله، ورغم ذيوع الأسلحة التقليدية لدى جميع الدول، فإن ظاهرة الحروب التقليدية تكاد تختفي بين الدول. وهناك حروب العصابات، وهذه شاعت في حروب تحرير المستعمرات (الجزائر وفيتنام أبرز الأمثلة)، كما أنها أيضًا انتشرت داخل الدول سواء في الحروب الأهلية أو تلك الأهلية التي انقلبت إقليمية ودولية بالوكالة. الآن نحن لسنا إزاء حروب عصابات فقط، وإنما هي مختلطة مع الإرهاب؛ الأولى تجري على أرض محددة، بل إن الصراع غالبًا ما يكون على هذه الأرض أو سكانها، والثانية موجودة باتساع العالم، وفيها لا يتقاتل مقاتلون، وإنما هي استهداف للأهداف الناعمة للبشر في حياتهم المدنية بقتل الإنسان أو تدمير قدراته المادية والاقتصادية.


نظرة أوباما للحرب الآن ضد تنظيم داعش هي أنه لا يمكن شن حرب تقليدية بينما الخصم يحاول الجمع بين حروب العصابات وحروب الإرهاب. الحرب التقليدية سوف تعني وجود قوات كبيرة، فيالق وفرق، وباختصار الكثير من «البيادة» على الأرض. ترجمة ذلك عسكريًا هي تقديم وجبة كبيرة من اللحم البشري لالتهامها من قبل جماعة من المتوحشين لا يوجد لديهم اعتبار للإنسان أو الأرض. ميزان الرعب دومًا سوف يكون لصالح الإرهابيين؛ فمع استبعاد «الحرص على الحياة» من قبل الإرهابي، ومع استبعاد الحرص على المدنيين حتى ولو كانوا من الدين نفسه بل والمذهب نفسه والعرق نفسه، ومع استبعاد الحرص على الأرض، ما دامت أرض الله واسعة، وأن الإرهابي يستطيع دومًا الانتقال بين مسارح مختلفة للعمليات، فإنه لا يوجد حل آخر للتعامل معه إلا قتله، ومنعه من الحصول على ضحية يقتلها.


مثل ذلك لا يكون ممكنًا إلا من خلال «مبدأ قتالي» يقوم على المزج ما بين الحرب على الإرهاب وحرب العصابات، ولكنها هذه المرة مدعومة بالقدرات العظمى لدولة عظمى في تكنولوجيا السلاح من ناحية، وفي الصبر والانتظار من ناحية أخرى. وما دام الإرهابيون، هذه المرة «الداعشيون»، لا يقتلون جنودًا أميركيين، فإن ميزان الصبر لا بد أن يميل لصالح الولايات المتحدة.


لقد جرت كثير من التحولات الكبرى في «المبدأ العسكري» الأميركي خلال الأعوام الماضية. وبعد أن كانت القوات الأميركية مهيأة بالقنابل الذرية وحاملات الطائرات والصواريخ وأمثالها للحرب مع الاتحاد السوفياتي، أو الصين، فإنها أصبحت الآن تعد نفسها للحرب ضد جماعات مختلفة لـ«القاعدة» و«داعش» وأمثالهما، المنتشرة في قارات الدنيا، ومندمجة أحيانًا في قلب السكان المدنيين، كما هو حادث الآن فيما يزعم «دولة الخلافة». هنا فإن المعلومات والاستخبارات تتصاعد أهميتها لأن البحث لا يكون عن كتائب وصواريخ وطائرات، وإنما عن أفراد مسلحين وبرابرة لا بد من التقاطهم الواحد بعد الآخر، أو متحركين في عربة أو عدد محدود من العربات. المراقبة من الجو المستمرة على مدار الساعة ضرورة، والنظر اللصيق على الأطراف، يزيد من إمكانيات الالتقاط والتدمير. تكنولوجيا الطائرات دون طيار، والمجسات، وقرون الاستشعار عن بعد وعن قرب، تطورت بشكل كبير خلال السنوات الماضية بحيث دعمت هذه الاستراتيجية. والآن، فإن الولايات المتحدة بالإضافة إلى الأقمار الصناعية، يوجد لديها طائرات «البريديتور» دون طيار التي يمكنها البقاء في مراقبة منطقة من المناطق لأيام طويلة، ولا يوجد فيها ما يحتاج الغذاء، ويمكنها دومًا قتل الأهداف التي يجري تغذيتها بها، وبدقة متناهية.


دور «البيادة» في ظل الاستراتيجية الأميركية الجديدة لا يختفي بشكل تام، وإنما يتغير كمًّا ونوعًا. كما أنه لم تعد هناك حاجة إلى جيوش كبيرة، وإنما هي قوات بالغة التخصص في القضم المستمر للأطراف، والالتقاط الدائم والسريع للإرهابيين. ونوعًا ما فإن غالبية هذه القوات ذات طبيعة خاصة، أو ما يسمى في الجيوش العربية مثل الصاعقة والعاصفة، وهي في جوهرها مجموعات قليلة العدد، ولكنها فائقة القدرة على القتل. ومن يتابع معارك الرمادي وسنجار والطريق 47 بين الرقة والموصل سوف يجد الكثير من ذلك كله، مضافًا إليه قوات محلية كردية وعربية جرى تدريبها مثل القوات الخاصة.


ولمن بيده الأمر في إنشاء القوة العسكرية العربية، فربما كان ذلك ملهمًا في تصور أن القوة العربية يمكنها أن تكون فعالة لو كانت خفيفة، ذات طبيعة خاصة، ومزودة بتكنولوجيات متفوقة.


هل تنجح هذه الاستراتيجية أم لا؟ لن يتوقف فقط على القدرة القتالية في القضاء على أعداد كبيرة من الإرهابيين، أو حتى حرمانهم من الأرض التي يقفون عليها، وإنما سوف تكون الحلقة الفاصلة بين النصر والهزيمة هي أن يكون عدد القتلى من الإرهابيين أكبر بشكل ملموس من هؤلاء الذين ينضمون إليهم؟ تلك معضلة أخرى على الأميركيين والعرب وكل الذين يحاربون الإرهاب أن يصلوا إلى حل لها.
&