حميد المنصوري
ترسم الموصل في الوضع الراهن دوراً لإعادة هوية الخريطة العراقية وربما الشرق الأوسط من خلال البعدين: الديني (المذهبي) والقومي على وفق معطيات ومصالح إقليمية ودولية، ولعل دخول القوة التركية العسكرية إلى شمال العراق «منطقة بعشيقة بالموصل» يكشف لنا بكل وضوح ضعف الدولة العراقية في تأمين إقليم العراق مع عجزها عن خلق إطار حكومي وسياسي لبناء العراق الجديد.
ويتزامن هذا التدخل والتواجد التركي في الموصل مع أزمة متولدة بين تركيا وروسيا بعد إسقاط الطائرة سوخوي. وفيما يبدو أن التدخل التركي يسعى إلى أهداف منها، تقليص قوة التحالف الروسي الإيراني وإبراز القوة والحضور التركي في العراق وسوريا. وقد جاء ذلك التدخل ضمن أطر محتملة منها استخدام موسكو ورقة قطع الغاز الروسي عن تركيا بعد تجميد مشروع غاز «السيل التركي» يضاف إلى ذلك احتمالية تقسيم بلاد الرافدين والذي يعكس دوراً في حماية سُنة العراق، وهاجساً أمنياً لأنقرة من خلال تمدد الأكراد.
&
وعلى الرغم من أن حضور القوة العسكرية التركية في منطقة «بعشيقة» شمال الموصل يُعد انتهاكاً لسيادة العراق، إلا أنهُ مبرر بدوافع تركية، التي تحمل الخوف من توسع حدود كردستان العراق واتصالها جغرافياً بالكيان الكردي المتشكل في شمال سوريا، وأيضا منع إدارة إقليم كردستان من ضم مدينة الموصل ومنطقتها بعد تحريرها من «داعش»، ولكي لا يتكرر ما حدث من ضم كركوك وسنجار بعد تحريريهما. لكن المفارقة أن أنقرة لها علاقات قوية مع رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني في المجال الأمني والطاقة. فقد فتح قطاع الطاقة الأبواب بين الطرفين، وتم تصدير النفط إلى تركيا منذ 2013. ومن المتوقع أيضاً تصدير الغاز عبر تركيا 2016، فالتعاون الاقتصادي ومرور الطاقة يتطلب التعاون الأمني بين الطرفي.
على سبيل المثال في إطار التعاون الأمني وتغليب مصالح كردستان العراق نرى ما حدث عقب إعلان حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» عن إدارة ذاتية في المناطق التي تقع تحت سيطرته في سوريا والتي سميت منطقة «الإدارة الذاتية لغرب كردستان»، وهنا أصدر رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني بياناً شديداً ضد إدخال الأكراد في الحرب بسوريا، كما أن أربيل ترى في أنقرة القدرة على تطوير مكانة الإقليم الاقتصادية والتجارية والأمنية بعيداً عن حكومة بغداد المركزية، لذا فإن هذه المصالح المشتركة قادت أيضاً إلى وجود عدو مشترك بينهما هو حزب العمال الكردستاني التركي.
وفي تصور آخر فإن التواجد التركي قد يعكس تصوراً أميركيا مع أطراف إقليمية تريد من الموصل بعد تحريرها من «داعش» أن تكون نواة لمنطقة سُنية، فهناك قوى سُنية ومضطهدين طائفياً مع بقايا من أتباع وأنصار «البعث» العراقي، والذين قد ساندوا «داعش» بسبب سياسات حكومة بغداد الطائفية، وأيضاً «داعش» قد تتفكك في أطراف أخرى سُنية من جديد، فالقوى السُنية قد تكون لها القدرة على خلق منطقة سُنية في حكم ذاتي فيدرالي، أو خلق دولة لها أن تتصل وتتحد مع سوريا من خلال البعد المذهبي السُني. وهنا ستكون أنقرة وواشنطن وغيرها من الدول تتسابق إلى تقديم الرعاية والدعم لهذا الكيان الجديد.
ولكون سوريا التي تجاور العراق ستتأثر بالانقسام المذهبي السُني والقومي الكردي بسرعة كبيرة، والذي سيقود بدوره إلى فشل كبير لموسكو في سوريا، حيث لن يبقى لها سوى منطقة العلويين والدروز بسوريا، ولعل هذا هدف واشنطن وغيرها. أما في شأن تقسيم العراق، فتكمن مصلحة كبرى لإيران حيث يخرج العراق من احتمالية الدخول في المعادلة الإستراتيجية الإقليمية في الخليج من جديد، كما كان قبل غزو الكويت، وتبقى ثرواتهِ النفطية في «إقليم العراق الشيعي» تحت الأيدي الإيرانية، كل ذلك مع حقيقة أن تقسيم العراق سيهز مستقبل إيران وطموحها من خلال حراك مذهبي وقومي في تركيبتها السكانية المتنوعة. وفي افتراض انقسام العراق لثلاث دول، سنكون أمام تشكيل شبكة جديدة من العلاقات الإقليمية بكل أبعادها الأمنية والاقتصادية وحتى الدينية والقومية. وفي تصور مضاد لتقسيم سوريا، يبدو التدخل الروسي في سوريا وحربهِ على الإرهاب يحقق انتصارات ليست ميدانية فقط بل قانونية، فقد وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع على مشروع قرار يقضي بعقد مفاوضات بين وفدي الحكومة السورية والمعارضة في مطلع يناير 2016، فاحتمالية نجاح الدور الروسي ستقود إلى المحافظة على خريطة سوريا كاملة أو معظمها، كما أن خروج بشار ربما يكون نتيجة ستحددها انتخابات شعبية قادمة.
وإذا وضعنا سبباً أن تركيا في الموصل لمنع التمدد الكردي وضمهِ لأراضي جديدة، إلى جانب محاولة تمثيل ورعاية وحماية الكيان العراقي السني المتوقع في شكل فيدرالي مع دولة العراق الفيدرالية أو كدولة جديدة له أن يتمدد نحو سوريا التي تحاول موسكو فيها إعادة سوريا كما كانت قبل الثورة، فكل تلك الأسباب والأهداف الخاصة بأنقرة لا تخفي الخوف التركي من روسيا بعد حادثة سوخوي واستخدام ورقة الغاز، حيث أنقرة تستورد الغاز من روسيا وإيران، وتعد تركيا ثاني مستورد للغاز الروسي بعد ألمانيا، كما أن النمو الاقتصادي التركي معتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، ولذا هناك خوف من أن موسكو ستقطع الغاز عن تركيا بعد تجميد مشروع غاز «السيل التركي» وهو مشروع يحول تركيا إلى مركز لتوزيع الطاقة إلى جنوب أوروبا، كما أن وجود بديل عن الغاز الروسي يحتاج إلى فترة زمنية وتوفر كمية ضخمة مع التكلفة العالية، لذلك فإن أنقرة تخفي وراء تواجدها في الموصل منع روسيا وإيران من الضغط عليها من خلال استخدام ورقة الغاز، وتحاول أن تكون الراعي والداعم لمناطق السنة في العراق وسوريا، وتحييد التمدد الكردي مع الحفاظ على مصالحها مع كردستان العراق، يضاف إلى كل ذلك، بأنها «تركيا» مازالت تحاول إنجاح دورها وطموحها من خلال إعادة الحياة في المنظور الجيوبوليتكس الذي صاغهُ أحمد داوود أوغلو.
&
التعليقات