& أمين ساعاتي

&

عقد في الكويت في الشهر الماضي مؤتمر عالمي حول صون المناطق الحضرية والتراث الإنساني في الدول العربية، والمؤتمر عقد بمباركة منظمة اليونسكو العالمية وحضور كثير من الدول، تمنيت أن أرى مشاركة المملكة في المؤتمر؛ لأننا نخوض في هذه الأيام معركة الحفاظ على التراث العمراني وإعادة تعميره.

&

ولا ننسى أن المتاحف في الدول العربية التي اندلعت فيها ثورات الربيع قد سرقت ودمرت وفقد الكثير من كنوزها التراثية المهمة جدا لتاريخ الحضارات العربية وللوجود العربي بِرُمّتِهِ، كما أن هذه الثورات المدبرة قد دمرت الكثير من المظاهر الحضارية والتراثية في المدن العربية في العراق وسورية واليمن وليبيا...

&

إن التراث لا يقتصر على الحاضر، وإنما يترامى بعيدا عبر الماضي الذي ينطق بما فعله الأوائل رغم أن البيئة قد تكون أحيانا خرساء، ولكنها تنطق وتتحدث في كل الأحقاب، وتنطلق من خلال تاريخ الإنسان، ولذلك قيل بحق إن التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض.

&

إن المملكة بلد الحضارات ومن أرضها بزغت عديد من الحضارات الإنسانية وآخرها بزوغ شمس الحضارة الإسلامية التي نشرت أنوارها في كل ربوع الدنيا، السعودية باختصار من أغنى الشخصيات الإقليمية وأكثرها ثراء وعددا في الجوانب والأبعاد التاريخية والتراثية.

&

ولذلك نستطيع القول إن المملكة موضوع مثالي في علوم التراث وعلوم الآثار؛ لأنها تمتلك أو تتكئ على كنوز من حضارات الإنسان، كنوز في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، في الدرعية، ومرابض الرياض، والعلا وخيبر، والأحساء، وتبوك، والقصيم، وحائل، وجازان، ونجران...

&

لقد كلف ولي الأمر الأمير سلطان بن سلمان ليتولى مسؤولية الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، ونجح هذا الأمير المخلص في حماية التراث الوطني حينما أعد نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني الذي أعاد الاعتبار للتراث الإنساني في هذه البلاد الخيرة المباركة، وحماه من الاعتداء على الحضارة وتراثها الإنساني.

&

إن التراث قيمة حضارية يرتبط بتاريخ المملكة، وتقوم الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمسؤولية بلورة وترسيخ الاهتمام بالتراث الوطني في نفوس المواطنين لأنه المُكَوّنْ الأساسي للهوية الوطنية.

&

التراث الإنساني قوة ناعمة تزهو بها كل دول العالم، وبقدر ما يتمتع الإنسان من صفاء في العقيدة والفكر بقدر ما يحترم تراثه ويقدس مقدساته، ولم يكن إطلاقا احترام التراث وحمايته متعارضا مع تقديس المقدس، فتقديس المقدس يحقق مبدأ احترام التراث والتفاخر به وحمايته من العدوان وجاهلية الجاهلين، وفي النهاية فإن كل مقدس هو تراث يجب احترامه وإجلاله وتقديره.

&

إن المملكة العربية السعودية محاطة بكنوز البحار من الشرق والغرب، فهي تضع قدما في الخليج العربي، وأخرى في البحر الأحمر، وبين هذين البحرين هناك كنوز من التراث الحضاري في مقدمتها كنوز الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة التي تربط كل سكان المملكة مع سكان عالمنا الإسلامي الغفير برباط سحري لا يقبل الانفصال أو الانفصام، والمملكة بجسمها المديد الممتد على مساحة تزيد على مليوني ميل مربع تبدو مخلوقا قويا مفتول العضلات، ولذلك فإن رسالتها التاريخية تنفذ إلى الآفاق الرحبة بقوة، وموقعها العبقري مَكّنْهَا من أن تمد يدا نحو الشمال، وأخرى نحو الجنوب، وهي بعد ذلك وقبله مركز مشترك بين ثلاث دوائر، فهي تقع في قلب العالم العربي، ووسط العالم الإسلامي، وهي حجر الزاوية في قارة آسيا.

&

هذا الموقع العبقري جعلها ترث مجموعة من التراث المنحدر من حضارات إنسانية متنوعة، بمعنى أن الموقع العبقري للسعودية يجعلها دولة راسخة الوجود رغم كيد الكائدين وكذب الكذابين!

&

إن الدين الإسلامي الحنيف حدد للشخصية الإسلامية ملامح مميزة، بمعنى أن الشخصية الإسلامية شيء أكبر من الخصائص الجغرافية؛ لأنها شخصية تنبثق من روح المكان لتكتشف عبقريته الذاتية التي تحدد ملامحه المتفردة.

&

بمعنى أن المملكة لها عمق حضاري عبر مجموعة من الحضارات الغابرة التي شع نورها في أرض الجزيرة العربية، ثم انبلج نور الإسلام الحنيف ليكون قمة كل الحضارات وأكثرها إشعاعا وتنويرا على الدنيا بأسرها.

&

إن إعادة تأهيل المواقع التاريخية والمباني التراثية وتحويلها إلى مراكز حضارية تشع بنور العمارة الإسلامية حتمية يفرضها علينا عمقنا الحضاري المتصل بمجموعة من الحضارات التي نشأت وأينعت فوق أديم هذه الأرض المباركة الخيرة وإلى أن يبعث الله في أرض الجزيرة ما وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا". رواه مسلم.

&

لسنا هنا بصدد المدح لمجرد المدح، ولكن تراثنا الوطني يمثل حصنا يُعَلّي كل القيم الجميلة في نفوسنا بدءا من قيم التسامح والمحبة وحتى قيم التنوير والتعمير والبناء.

&

إن من شأن خطاب التراث الوطني بكل مقوماته أن يعزز حتمية الانصهار بين كل فئات الشعب السعودي في بوتقة وطن له جذور وحضارات عميقة، تبني ولا تهدم، تعمر ولا تفتت، تصون ولا تبعثر.

&

وفي هذا المناخ مناخ إحياء التراث نبني أجيالا تنبذ ثقافة الكراهية والتوحش، وتتبنى ثقافة العيش الرغيد في عالم إنسانه يحترم الآخر ولا ينبذه أو يكرهه.

&

إن كنوز التراث في الأراضي السعودية تنقلنا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، ولذلك نحن اليوم نفكر في ماذا نحن فاعلون بكنوز التراث الوطني، كيف نستثمر هذه الكنوز، كيف نضعها في خدمة مستقبلنا ومستقبل الأجيال من بعدنا؟!

&

إن الاهتمام بالتراث الحضاري ملحمة يجب أن نعيشها ونهتم بها ونحتفي في كل وقت بماضيها وحاضرها ومستقبلها.