توفيق المديني

&
بعد مخاض عسير أُعلن رسميا في تونس يوم الإثنين 2 فبراير 2015 عن تشكيل الحكومة الجديدة، التي طال انتظارها، منذ نهاية العام الماضي، ويقودها السيد الحبيب الصيد في قصر القصبة، الذي يعتبر أحد الرؤساء الثلاثة في عهد الجمهورية الثانية.


ومن المعروف عن رئيس الحكومة الجديد، أنه كان رئيس ديوان الرجل القوي في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووزير الداخلية حينها عبد الله القلال، لكن هاهو يجد نفسه الآن مع بداية الجمهورية الثانية كواحد من بين الرؤساء الثلاثة الأقوياء، في دولة مازالت تبحث عن رجل قوي بالفعل، يقودها ويعيد لها تألقها وهيبتها.
رغم أن تونس بعد أن استكملت مرحلة الانتقال الديمقراطي بحاجة ماسة إلى رجل دولة قوي يقودها في هذه المرحلة الصعبة من تاريخها، فإن النخب التونسية ومعها معظم الأحزاب السياسية تقر بأن السيد الحبيب الصيد ليس هو الرجل القوي في زمن الوهن السياسي والارتباك الحزبي، بل إنه يعتبر رجل دولة خبير في إدارة الشأن العام، ومطلع على الملفات الحساسة كالأمن والاقتصاد، ورجل هذه المرحلة التوافقية، ويقبل تطبيق التعليمات من دون مجادلة، لأن الرجل القوي في تونس يظل الرئيس الباجي قائد السبسي الراغب في ترك بصمته التاريخية على أنه منقذ تونس في زمن استعادة هيبة الدولة.
وكان للقاء الذي جمع بين الشيخين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي في باريس يوم 13 أغسطس 2013، هو الذي رسم المشهد السياسي التونسي الراهن، وهو أيضا الذي أسس وشكل المرجعية الحقيقية للشراكة في الحكم بين النداء والنهضة، والباقي تفاصيل في السياسة.
فتونس محكومة بقرار إقليمي ودولي- لاسيَّما أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد مشاركة النهضة في الحكومة- إلى أن يتم إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في عهد الجمهورية الثانية. فالشيخ راشد الغنوشي كان يريد مشاركة حركة النهضة في الحكومة الجديدة، من أجل تخفيف الضغوطات عليه من داخل حركته، وفي سبيل بقائه على رأس الحركة في مؤتمرها القادم!!
وفي المقابل فإن الباجي قائد السبسي مقتنع تمام الاقتناع بصعوبة و«عسر» المرحلة القادمة من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ومن «السذاجة» بالنسبة إليه أن يحمل حزبه «وزْر» تلك الأيام القادمة، ومن مصلحته أن يحمل معه تلك «الأوزار» طرف آخر له ثقله في الشارع حتى لا يُنعت حزب نداء تونس بالفشل، مثل سابقيه!! ويريد الباجي قائد السبسي تحقيق المصالحة الوطنية، باعتبارها مطلباً ملحا للدساترة والتجمعيين الذين ينتمون إلى النظام السابق، والذين يشكلون العمود الفقري لحزب«نداء تونس»، وأوصلوه إلى قبة البرلمان في الانتخابات التشريعية الأخيرة، و«أوصلوا» أيضاً قائد السبسي إلى «أمنية» العمر وهي كرسي الرئاسة بقرطاج. فالدستوريون والتجمعيون يريدون قانون «المصالحة الوطنية»الذي لن يمر إلا إذا كانت النهضة مشاركة في الحكم، لكي يضعوا حدّاً للمضايقات والتتبعات والتجميد والتجويع والشيطنة التي تعرضوا لها منذ أربعة أعوام كاملة.
ويهيمن على تشكيل الحكومة الجديدة الائتلافية بقيادة الحبيب الصيد، والتي تضم 27 وزيراً و14 كاتب دولة (وزير دولة) بينهم 8 نساء (3 وزيرات و5 كاتبات دولة)، حزب «نداء تونس» الذي أسسه السيد الباجي قائد السبسي، الفائز في الانتخابات التشريعية (86 مقعداً)، إذ حظي بـ6 وزارات بينها الخارجية التي تم إسنادها إلى الطيب البكوش، الأمين العام للحزب. وتم إسناد وزارات الداخلية والعدل والدفاع إلى شخصيات مستقلة ظاهريا،وليس لها انتماءات سياسية معلنة. وحصلت حركة «النهضة» التي احتلت المرتبة الثانية في الانتخابات (69 مقعداً) على وزارة التشغيل و3 كاتبات دولة (وزارات دولة).
حيث إن المهم بالنسبة إليها ليس عدد الكراسي وعدد الوزارات التي حصلت عليهم، وإنما كسر هذا التقليد المسموم.. تقليد تحالف اليسار والدساترة على الإسلاميين، من أجل صناعة مشهد جديد.. مشهد لا يكون فيه الإسلاميون ضحية. وتعتبر حركة النهضة من أكبر الرابحين في تشكيل حكومة الحبيب الصيد، إذ استطاعت أن تفرض إرادتها، وحققت شروطها، وعادت بقوة إلى الحكومة الائتلافية مع أهم خصومها السياسيين، حتى وإن كانت مشاركتها في الحكومة «رمزية».فحركة النهضة لم تقبل بتلك المشاركة الرمزية إلا بعد أن اشترطت موافقتها على كل الوزراء، وتحييد وزارات سيادية، هي: العدل والداخلية والدفاع.
وشارك في هذه الحكومة الجديدة أيضا كل من حزب الاتحاد الوطني الحر» (ليبرالي) الذي أسسه في 2011 رجل الأعمال الثري سليم الرياحي، والذي حصل على نحو 16 مقعدا في الانتخابات الأخيرة وحل ثالثاً. ورغم محدودية تمثيل حزب «آفاق تونس» الليبيرالي في البرلمان، الذي حل خامساً بنحو (8 مقاعد)، فهو يعتبر الحزب الثاني في ترتيب الرابحين، إذ توصل بفضل حنكة قيادته المرتبطة بالمؤسسات الدولية المانحة، والتي تطرح تطبيق الليبرالية المتوحشة، أن يحصل على ثلاث وزارات مهمة، وهي التنمية والاستثمار والتعاون الدولي (ياسن إبراهيم الأمين العام للحزب)، و المرأة والأسرة والطفولة، والاتصال والاقتصاد الرقمي.
فيما لم يتمثل حزب «الجبهة الشعبية» اليساري (15 مقعدا) الذي حل رابعاً في الانتخابات التشريعية في الحكومة.
وكانت «الجبهة الشعبية» أعلنت في وقت سابق، رفضها المشاركة في أي حكومة تكون حركة «النهضة» جزءاً منها.
وبحسب الدستور التونسي الجديد، يتعين أن تحصل حكومة الحبيب الصيد قبل مباشرة عملها على ثقة الغالبية المطلقة من نواب البرلمان، أي 109 من إجمالي 217 نائبا. ومنح البرلمان في جلسته التي عقدت يوم الأربعاء 4 و5 فبراير الجاري الثقة للحكومة الجديدة من دون عناء، لأن أحزاب «نداء تونس» وحركة «النهضة» و«الاتحاد الوطني الحر» و«آفاق تونس» تملك مجتمعة 179 مقعدا. أما الجبهة الشعبية فقد أعلنت مسبقاً وعلى لسان ناطقها الرسمي، أنها لا يمكن أن تصوّت لحكومة فيها وزراء ممن عملوا في نظام بن علي الذي ثار ضده الشعب أو في ائتلاف الترويكا الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار. وفضلاً عن ذلك، لن تصوت« الجبهة الشعبية» لحكومة لا يحتوي برنامجها المباشر على الأقل على إجراءات ملموسة لفائدة الشعب في مجالات الأسعار والأجور والدخل والأمن وكذلك إجراءات للبحث عن الحقيقة في قضية الشهداء بمن فيهم شهداء الجبهة الشعبية الذين ستحيي في الأيام القليلة القادمة الذكرى الثانية لاغتيال أحدهم وهو الشهيد شكري بلعيد زعيم «حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد» وأحد أبرز قيادات الجبهة الشعبية.
يجمع المحللون الملمون بالشأن التونسي أن التركيبة الحالية للحكومة الجديدة لا تمثل الخيار الأمثل لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، ولاسيَّما في شقها المتعلق بمحاربة الإرهاب، فالذي تبوأ مركز القيادة في وزارة الداخلية، وهي وزارة سيادية بامتياز، وحسب آراء القوى السياسية الديمقراطية في البرلمان التونسي هو تجمعي من المنظومة القديمة، وكان من القضاة الحاضرين في الانقلاب على جمعية القضاة، كما تعرض للعقاب والطرد من المواطنين بعد الثورة، وتم تعيينه في منصبه والياً من قبل السيد الباجي قائد السبسي في حكومته الأولى وكان طيعاً للنهضة.وقد تذهب بعض التحاليل إلى الإقرار بوجود محاولة ولو جزئية لتحييد أهم وزارات السيادة،على الأقل بعض وزارات السيادة المحورية لدى حركة النهضة كالداخلية والعدل نظراً لعلاقتها بمسألة المحاسبة على أخطاء المرحلة الانتقالية، ولاسيَّما فيما يتعلق بالملفات الحارقة في صلب وزارة الداخلية: الإرهاب وتشجيع ما يسمى بـ «المجاهدين» للقتال في سورية، ومنها أيضاً العلاقة مع النقابات الأمنية وموضوع الأمن الموازي وإصرار عديد الكوادر الأمنية والنقابية على وجود اختراقات في وزارة الداخلية.
ويتساءل هؤلاء المحللون: كيف سيتمكن وزير الداخلية الجديد من التعاطي مع جملة الملفات المعروضة عليه في ظل بوادر اعتراض على ترشيحه بلغت حدّ التشكيك في شخصه وفي انتماءاته؟.
وكان أقوى تصريح معارض لشخص وزير الداخلية المقترح صدر عن القاضية كلثوم كنو التي ترشحت في الانتخابات الرئاسية، إذ قالت: «وزير الداخلية ناجم الغرسلي أسوأ اختيار قام به رئيس الحكومة، إنه قاض غير مستقل لعب أدوارا قذرة في السابق في هرسلة زملائه القضاة الشرفاء.. وهو من الانتهازيين ولا أثق فيه أبداً ولا أطمئن لأدائه فهو من جماعة قلابة الفيستة (الجاكيت).. » على حد تعبيرها.
في مواجهة هذا الوضع يتساءل المدافعون عن أهداف الثورة التونسية: ماذا نقول للأجيال التي ناضلت من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحرية التعبير والتفكير وإرساء قواعد التعامل الديمقراطي وتكافؤ الفرص في الدّولة والأحزاب،ورفعت شعارات فصل الحزب عن الدولة، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وترسيخ مفهوم دولة القانون والمؤسّسات أي كل التقاطعات والشعارات والأحلام الموءودة التي طفت إثر 14 يناير2011 وامتزجت بشعار الكرامة الوطنية كي تصبح رايات لبناء مستقبل البلاد والحفاظ على المكتسبات الّتي حقّقتها الأجيال السّابقة، فأين ربيع الشعارات الّتي حملتها الأجيال، بعد سنوات أربع في ربوع تونس والّتي تجمّعت كلّها حول بناء أسس الجمهورية الثانية؟
الامتحان الحقيقي للحكومة الجديدة يتمثل في قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية في شقيها الاقتصادي والأمني التي تعانيها تونس، فهل ستقدم الحكومة الجديدة «حلولاً سحرية» للأزمة الاقتصادية الناجمة بصورة رئيسة عن وصول الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن إلى مأزقه الأخير مع اندلاع الثورة، الأمر الذي بات يتطلب من حكام تونس الجدد، انتهاج خيار جديد من التنمية قادر على تحقيق نسب نمو مرتفعة، لا يدفع المواطن البسيط فاتورته من «دمه».
لكن المراقب للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح أن الأطراف الأساسية التي تتكون منها هذه الحكومة الجديدة، تتبنى نهج الليبرالية، وتالياً فإن الحكومة الجديدة موضوعة – رغم إرادتها- أمام خيارات صعبة، ولاسيَّما فيما يتعلق بتطبيق الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) لمعالجة الواقع الاقتصادي التونسي.
فالحكومة الجديدة ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في النهج الاقتصادي نفسه، ومنوال التنمية نفسه اللذين سارت فيهما معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وحتى يناير 2015، بصرف النظر عن طبيعة النظام التي اشتغلت تحت لوائه هذه الحكومات المتعاقبة... وهذا النهج الاقتصادي القديم – الجديد يتناقض بصورة جذرية مع أهداف الثورة التونسية المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وانتهاج تونس أنموذجاً جديداً للتنمية يحمي القدرة الشرائية للمواطن، ويسمح بتكوين الثروة، وتطبيق مبادئ السوق الاجتماعي،وإنقاذ البقية الباقية من الطبقة المتوسطة عماد أي اقتصاد قوي في العالم.أنموذج من التنمية جديد قادر على إخراج تونس من الوضع الاقتصادي المتأزم، ويكون قادراً على مواجهة «غول» الفقر الذي بات يضرب الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.
&