ملحة عبدالله

للفن وظيفة مهمة وقادرة وخاطفة في صياغة الوجدان وتكوين الوعي أضعاف ما تحدثه المنصات، وأي خطاب مباشر مدرسي أصبح عديم الجدوى

&


مخطئ من يعتقد أن الرصاص هو الحل، ومخطئ من ظن أن الندوات والمؤتمرات والمنصات هي الحل، ومخطئ من ظن أن الخطاب المباشر هو الحل في أوطان تلتهب بنار القتل والإرهاب. وما حدث في وطننا العربي ما هو إلا تأخر دور الفن وهبوط مستواه على كل الصعد، فالفن هو فن صياغة الوجدان وهو المكون الأساس للوعي الجمعي. وقد يساور القارئ الشك فيما نطرحه، ولذلك فلنتتبع فن صياغة الوجدان وصياغة العالم عبر منطق علمي وأكاديمي وموضوعي بعيدا عن المنطق الذاتي الملتوي.


في بداية الأمر سنرجع إلى التكوين البشري منذ أن وجد الإنسان القديم وكيف كان يصوغ عالمه ويتواصل معه ويطوعه له بحسب ما يطلق عليه التسرب الانفعالي إلى الوجدان، والوجدان هو مركز السلام النفسي مع العالم.
فقد فطر الإنسان منذ وجوده على الأرض على الفن والإبداع، وذلك ما نلاحظه في النقش على الكهوف لدى الفنون البدائية. فنجده على سبيل المثال يرسم ثورا ثم يرسم رمحا في صدره اعتقادا منه أنه سيهزم هذا الحيوان عن طريق الاعتقاد أيضا، فيذهب وينتصر ويعود يغني ويرقص فرحا بالانتصار، ومن هنا نجد أن الفن هو المعين الأول للقوة والانتصار الناتج عن قوة نفسية تسربت لوجدانه، فمنحته قدرة رهيبة على الانتصار، خاصة أنها تعززت بالعقيدة أو الاعتقاد، فالفن والعقيدة هما إذا اجتمعا كانا ركيزتين مهمتين في صياغة العالم وتطويعه للإنسان أينما كان موطنه أو عقيدته.


فالحكايات والأساطير البديعة ستبقى آثارا خالدة وفريدة وتشهد على ذاك العصر، يوم كان الوعي البشري يشعر أنه في تداخل سيال وفي وحدة بهيجة مع الطبيعة، فوقتذاك، ببساطة ودون عناء أو عذاب كان الوعي يخضع العالم لروحيته المستفيضة التي لم تستطع في البدايات أن تكون محددة ومحدودة، بل كانت كأنها تلعب وتتمتع ببراءتها بسلطة على الأشياء غير مثقلة نفسها بردود الفعل حول مدى التوافق بين تصوراتها والأشياء الحقيقية، فكل الأفعال التي تتم بصورة تلقائية عفوية وفطرية ليست إلا بحثا غير مقصود عن كمال الصورة واتساق النسق الداخلي للإنسان وإيقاعه مع الحياة مما يحدث المتعة. "فرقصة الصيد هي في مكان يتوسط المعرفة والنشاط المادي العلمي، فهو يتعزز بينهما، إنه رمز وتجسيد لوحدتها، ويختلف عن الحدث الواقعي في غياب المادة الحقيقية".


فالعمل أو النشاط في الفعل التركيبي يغدو متعة، ومصدر هذه المتعة يكمن في حرية التحكم في مادة العمل وفي ظروفه، وفي مادة العمل تظهر المعرفة. والفن هو أداة مهمة في التكوين المعرفي للإنسان عبر تطور مراحل حياته برمتها. فيقول غيورغي غاتشيف في كتابه الوعي والفن: "إن المعرفة وما في وعينا من معتقدات وأفكار وتصورات ليست غاية وإنما هي وسيلة، مادة يتكون بواسطتها الفعل بوصفه بنية نموذجية محددة. بالتالي فالإنسان هنا يتلقى المتعة في النشاط التشكيلي، هذا النشاط الذي يكمن مضمونه في ذاته).


وقد مارس الإنسان القديم طقوسه وفنونه وأعماله بمتعة فائقة رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم وإرساء جسر المعرفة ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية التي صنفها أدموند هولمز بغرائز ست قابلة للتعليم.
1- غريزة التواصل، الرغبة في التكلم والإصغاء. 2- الغريزة الدرامية، وهي الرغبة في التمثيل "غرائز وجدانية وعاطفية". 3- الغريزة الفنية، الرغبة في الرسم والتصوير "الدهان" والتشكيل. 4- الغريزة الموسيقية، الرغبة في الرقص والغناء "الغرائز الجمالية". 5– غريزة الاستطلاع، الرغبة في معرفة سبب الأشياء. 6- الغريزة الإنسانية، الرغبة في صنع الأشياء غرائز علمية.
وحتما إذا تأملنا هذه الغرائز التي حددها أدموند سنجد أن تتمتع بوحدة واحدة تجمعها وهي الفن والإبداع. وبه وطد الإنسان القديم علاقته بالعالم، وأرسى جسور ودعائم المعرفة والوعي والاستئناس والسلام مع عالمه الخارجي بل وسيطر عليه.


وذلك لأن الفن يعمل على تسرب الانفعال أي الوجدان الذي هو مركز اللذة والكدر، وبهذا يستطيع الفن صياغة الوجدان وتكوين الوعي عن طريق المتعة الحسية، لأن الفن يخاطب دائما الإحساس والعاطفة. فيقول هربرتريد في كتابه معنى الفن: "إن كلمة التعاطف تعني الإحساس، فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا داخل إطار هذا العمل الفني، وستحدد مشاعرنا تبعا لما سنجده هناك وتبعا للمكان الذي نحتله، وليس من الضروري أن تكون هذه التجربة مرتبطة بملاحظتنا للأعمال الفنية، فمن الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا في أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف".


من هذه الإحلالية والاندماج الذي يسلكه الفن للإنسان ما هي إلا ذوبان في ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة التي قد تحدث صدى في نفس هذا الإنسان للتجسيد والوصول إلى محسوسات بدلا من الملموسات، ولذلك وجب تلازم العقيدة مع الفن ليحدث هذا الأثر في الذات الوعية إن جاز التعبير.


تريد يقول في وظيفة الفن: "في الإمكان أيضا امتصاص الذوات الأجنبية امتصاصا جماليا، ومع ذلك لا يقوم التوكيد عندئذ على فهم أو توكيد تلك الذوات وسلوكها الفردي، وإنما يقوم على تقمص وجداني نفساني لناحيتنا الذاتية، يمتد بواسطتها الشيء كما يمتد فيه مخترقا له".


إن معناه هو تفسير المرء موضع نفسه حتى يصبح فوق الشيء وفي دخيلة الشيء والإحساس به، فالسعي وراء الإحساس بشتى صوره هو لذة الإنسان وألمه، والفن في الدرجة الأولى يرتكز على هذه الدرجة العالية من الأحاسيس. ويقول في موضع آخر: "يعرف الفن تعريفا أكثر بساطة وأكثر دعابة بأنه محاولة لخلق أشكال ممتعة ومثل هذه الأشكال تشيع إحساسا من الجمال، وإحساسنا بالفن والجمال إنما يشبع حينما نكون قادرين على تذوق الوحدة والتناغم بين مجموعة من العلاقات الشكلية من بين الأشياء التي تدركها حواسنا).


فالفن وظيفة مهمة وقادرة وخاطفة في صياغة الوجدان وتكوين الوعي أضعاف ما تحدثه المنصات، وأي خطاب مباشر مدرسي أصبح عديم الجدوى.


إن ما يحدثه تسرب الانفعال إلى وجداننا أصبح أمرا مرهونا بالوعي والقدرة على الصناعة، فلم يتردّ عالمنا إلا حينما تردى الفن وأصبح في يد التجار قبل المبدعين.
&