عرفان نظام الدين

رغم خيبات الأمل المتكررة من نتائج القمم العربية منذ 65 سنة حتى يومنا هذا، ومع أن مجرد ذكر قرب انعقاد قمة عربية جديدة مع تعليق الآمال الجسام عليها وانتظار نتائج باهرة منها يدفع إلى السخرية والضحك الموصوف في خانة «المضحكات المبكيات»، فإن القمة المقرر عقدها الأسبوع المقبل في شرم الشيخ تكتسب أهمية كبيرة، وإن كان من الممكن عدم الجزم بأنها سترسم مفترق طريق للعرب ما بعده طريق ولا مخرج.

&

أسباب هذه النظرة الواقعية - وليست التفاؤلية - كثيرة، أولها عودة القمة إلى حضن مصر، وعودة مصر بقوة إلى صدر العرب لتنعش الآمال بإحياء الأمن القومي العربي والشروع في فكّ ألغاز الأوضاع ومحاولة إيجاد حلول للأزمات الراهنة بجدية، بعد التقاط الأنفاس والخروج من مرحلة الضياع والتردي التي استمرت أكثر من أربع سنوات.

&

ويأتي ترجيح هذه الاحتمالات من منطلق عودة الأحاديث عن الحلول السياسية وإيجاد قواسم مشتركة والسعي إلى مصالحات ووساطات لرأب الصدع في شكل أو آخر. أما الأسباب الأخرى لانتظار مرحلة إيجابية من هذه القمة العتيدة فهي كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

&

- عودة الروح إلى العمل العربي المشترك والتواصل والتشاور بين الدول العربية الفاعلة، خصوصاً بين مصر والمملكة العربية السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي، من أجل مواجهة الأخطار القائمة، بدءاً من العدو الإسرائيلي الذي يعربد ويتمدد، وصولاً إلى المطامع الإقليمية وآخرها الإعلان الإيراني عن نيات الهيمنة على المنطقة والمؤامرات الدولية لتقسيم العالم العربي وتفتيته للسيطرة عليه.

&

- انتشار آفة الإرهاب ووصوله إلى مرحلة الخطر الداهم المنذر بويلات على العرب والمسلمين، وهو ما لم يحصل في عز أيام صعود «القاعدة»، ما يستدعي الاتفاق على موقف حاسم وقوي لا يركن إلى القوى الكبرى ووعودها الكاذبة ولا إلى ما تقوم به قوات التحالف الدولي من غارات متفرقة وخطوات ملتبسة.

&

- وجود خطة جاهزة وقابلة للتنفيذ ولو باتفاق من حضر ومن يقبل بالمشاركة فيها، تقوم على تشكيل قوة عربية موحدة لمواجهة الإرهاب وأخطاره أولاً، ثم قد تتحول القوة إلى التدخل السريع بقيادة مشتركة في حال تعرض أية دولة عربية إلى تهديد خارجي.

&

- التمهيد الجيد للقمة من خلال القمم التي عقدها الملك سلمان بن عبدالعزيز مع عدد من قادة الدول في الرياض، وأسفرت عن مجموعة تفاهمات تمهد لرسم خريطة طريق لمرحلة جديدة تعيد خلط الأوراق وترتيب البيت ونزع صواعق التفجير، عبّر عنها خادم الحرمين الشريفين بسعيه إلى استكمال آلية الدور المحوري للمملكة وبناء القوة الكفيلة بتحقيق الاستقرار.

&

- تعقد هذه القمة بعد أيام قليلة على تحديد شكل الحكومة الإسرائيلية المنبثقة من نتائج الانتخابات العامة الإسرائيلية ومعرفة اتجاهاتها في المرحلة المقبلة.

&

- كما تنعقد هذه القمة تزامناً مع انتهاء المهلة الأولية المحددة لمفاوضات الملف النووي الإيراني بين «مجموعة 5+1»، نظراً إلى ما تشكله نتائجها على مجمل أوضاع المنطقة من المحيط إلى الخليج، وسط مخاوف من تفاهمات وصفقات تحت الطاولة (خصوصاً بين إيران والولايات المتحدة) تطاول المنطقة، لا سيما مصير العراق وسورية ولبنان.

&

فقد شهدت السنوات الأخيرة دخول القوى الإقليمية، ومعها الدولية، مرحلة «اللعب على المكشوف»، سواء في اليمن بعد انقلاب الحوثيين بدعم إيراني رسمي وعلني مرفوق بعدم إخفاء لأمر التدخل المباشر والتهديد بالسيطرة على هرمز وبحر العرب ومضيق باب المندب. وبالتزامن جرى الإعلان بصراحة عن مشاركة (أو قيادة) قوات إيرانية في الحرب الطاحنة مع «داعش» في شمال العراق ولعب دور في سورية، وهذا ما دفع المرجع الشيعي الأعلى الإمام علي السيستاني إلى التمسك بالهوية العربية ورفض الهيمنة الإيرانية ومطالبة الميليشيات الشيعية بوقف انتهاكاتها للمناطق السنية.

&

- تزايد الأحاديث عن تفاهمات تسبق القمة لإيجاد حلول سياسية للحروب القائمة ووقف جرائم القتل والدمار والتفتيت وإنهاء محنة ملايين اللاجئين، علماً أن القمة تنعقد وأمامها ملفات 7 حروب عربية داخلية مع امتداداتها الخارجية وعلى دول الجوار، ما يطرح تساؤلاً ملحاً، وهو: هل ستكون هذه القمة «قمة الحروب العربية القاتلة»، أم «قمة الحلول الناجعة»، بدءاً من سورية إلى العراق واليمن وليبيا والسودان وحتى في مصر (الحرب على الإرهاب)، وصولاً إلى الصومال المنسي، ومن دون أن نغفل حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.

&

أما لبنان المنكوب أصلاً منذ اكثر من نصف قرن بأزمات أمته وأشقائه وأبنائه قبل أعدائه، فيكثر الحديث عن جرّه إلى حربين غير متكافئتين سيدفع ثمنهما غالياً: مع العدو الإسرائيلي، ثم مع المنظمات الإرهابية المتطرفة وسط مؤشرات إلى قرب وقوع المحظور مع بدء فصل الربيع وذوبان الثلوج في أماكن تجمع قواتها في الجبال والجرود الحدودية، ما سيؤدي إلى حرب ثالثة داخلية تحمل طابعاً مذهبياً وطائفياً في بلد لا يحتمل أية هزة وشعب ينوء بأحمال الهموم الأمنية والاقتصادية والمعيشية.

&

من هنا، فإن جر لبنان إلى مثل هذه الحروب من موقع ما قيل عن التشبه بالقوى العظمى سيجره إلى كارثة في بلد مشتت يشله الفراغ في رئاسته ومؤسساته ويعيش على حافة هاوية تستنزف طاقاته، فكيف إذا شد الرحال إلى العراق وسورية ليشارك في حروب الآخرين على أراضي الآخرين بعدما سيق إلى حروب الآخرين على أراضيه كما جرى في العام 1975.

&

من هذه الدروس يجب أن يتعظ القادة العرب، إن في قمتهم أو في مراكز القيادات الأخرى الفاعلة على الساحة، وأعني دروس العرب والآخرين. لأن الحرب ليست نزهة، ولابد من الإعداد لها والنظر إلى وسائل وإمكانات حماية المدنيين والمؤسسات والاقتصاد - ولنا في سقوط الإمبراطوريات الكثير من العبر لنتعظ منها - ويعمل الجميع على البناء عليها بالتشاور ومشاركة الشعوب في دراسة قرارات الحرب والسلم، وفي مقدمها نخبة الإعلاميين والمثقفين والعمل على وضع خريطة طريق للمستقبل تبدأ بإعادة اللحمة وتعزيز الوحدة الوطنية وإزالة صواعق الفتن الطائفية والمذهبية وتجنب تكرار الأخطاء والخطايا رحمة بالأبرياء وتغليب العقل والحكمة في القرارات المصيرية.

&

فالزعيم الحكيم والقوي هو الذي يعرف متى يحارب، وكيف وأين، ويعرف متى يهادن ويرابط. وإن كنّا لا نريد الإفادة من نكباتنا وتجاربنا المريرة وتجارب الآخرين في التهور والوقوع في براثن التباهي والتفاخر بفائض القوة أو المبالغة في الحديث عنها، فلنتعظ من الحكم العربية ودروس الشعر والتراث، ومنها ما نذكره عن زين الشباب أبي فراس الحمداني الذي وقع في الأسر وراح يشتكي من الظلم ومن عدم إقدام سيف الدولة على إنقاذه، فنظم قصيدته الشهيرة التي استهلها بالقول: أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي عليك ولا أمر؟

&

ثم تذكر في النهاية جذوره وأصله وثقافة الفخر، ليختم متباهياً وهو أسير: ونحن قوم لا توسط بيننا، لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

&

وراح المسكين بين عتابٍ وتباهٍ، بينما منافسه اللدود الشاعر أبو الطيب المتنبي يدفع حياته ثمن بيت شعر وقصيدة «غير عصماء» عندما تفاخر بأمور لا يملك إمكانات تحمل مسؤوليتها. فقد أخطأ مالئ الدنيا وشاغل الناس مرتين: الأولى عندما أعطى لنفسه صفات أسطورية بقوله: الخيل والليل والبيداء تعرفني، والسيف والرمح والقرطاس والقلم. ثم أخطأ المتنبي مرة أخرى في هجاء أم رجل أساء إليه، ويدعى ضبة بن يزيد الأسدي، في قصيدة هزيلة لم تكن في مستوى شعره الإبداعي استهلها بالقول: ما أنصف القوم ضبة وأمه الطرطبة، وإنما قلت ما قلت رحمة لا محبة.

&

والطرطبة هي المتهدلة الثديين. وقد غضب شقيقها فاتك بن جهل وكمن له بينما كان عائداً من الكوفة مع ابنه، ولما ظفر به أراد الهرب فقال له: أتهرب وأنت القائل: الخيل والليل... إلخ؟، فرد عليه المتنبي قائلاً: لقد قتلتني، قاتلك الله، ودفع حياته وذهب رخيصاً ثمناً لقصيدة رخيصة.

&

وأختم بحكمة أكررها لمناسبة انعقاد القمة العربية، لعلها تفيد القادة قليلاً، أنقلها من كتب التراث لأنها تحمل الكثير من العبر والدروس التي يجب أن يُحتذى بها، فالخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان سأل ذات يوم عمرو بن العاص عن سرّ ما يوصف به من دهاء وذكاء، فابتسم ورد قائلاً: «لأَنِّي لا أدخل في مشكلة إلا وأعرف كيف أخرج منها سالماً». وسكت قليلاً ثم سأل معاوية: «وأنت يا أمير المؤمنين، ما هو سرك؟»، فرد ضاحكاً: «لأَنِّي عندما أجد نفسي أمام مشكلة لا أدخل فيها أصلاً، بل أرد شرورها»! فرد عمرو قائلاً: «لقد غلبتني يا أمير المؤمنين وأنت القائل: والله لو كان بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها أبداً».

&

هذه الدروس والعبر نأمل بأن يعمل بها القادة، ولو بقليل من الحكمة، وقليل من التعقل، وقليل من الضمير، وقليل من الرحمة بالشعوب التي تساق إلى المذابح في مسالخ شهوة السلطة ومطامع شريرة وأوهام الآخرين... قليل من التواضع، فمن تواضع لله رفعه.
&